lundi 2 octobre 2017

موت إيفان إيليتش لليون تولستوي : مقاربة غير نقدية

إذا ما نحن رُمنا وصمَ كتابات ''ليون تولستوي'' بأحد النعوت ، ملتمسين أدناها إلى التعبير عن كنهها ،  لن نتردد كثيرا في اختيار صفة الإحراج ؛  إحراج انطوائي لا انبساطي بلغة كارل غوستاف يونغ ، فهو ذاتيّ المبعث و المحل ّ، ذلك أن مطروح من قبل الذات ، منصبّ على الذات

و هوأمر بدهي لمن يجد نفسه في رحاب كلمات تخز الضمير و تشعر القارئ بخسته  أو على الأقل إذا أبى إلا أن يحصن ذاته عن الخضوع لحقيقة التفاهة ، خسة العالم المحيط به ، الذي تعسّف حين عدّه الإطار الأوحد للوجود بما هو وجود ، ''الديزاين'' بالمفهوم الهايديغيري إن جاز التوصيف .

و كيف لا تريدها محرجة و قد اتخذت من الحياة على عمومها مناطا لها , فتولوستوي يصطحبك معه إلى تأمل غائي تيليولوجي  للوجود مسلطا أضواء الإنكار والاستهجان على ما ساد من قيم بديلة جماعها الإيغو ، تجلياتها عيش الدَّور ، الوهم ، التنافس , التكاثر , الحسد , اختزال الحقيقة في الصورة على حساب الجوهر ، الاعتداد بالجاه كمحدد لقيمة الإنسان ، و المكانة كمعيار للترقي الاجتماعي  التي تؤثر في وزن الشخصية الإنسانية في مرآة ذاتها و في مرائي غيرها من المتردين في ذات الفخّ أيما تأثير .  

و لعل إطلالة عَجلى على حيثيات القصة تكون كفيلة باستجلاء ملامح الصبغة الإحراجية التي تثيرها ؛ ف''إيفان'' وُلد لعائلة من الطبقة الوسطى التي تسعى لأن تنتسب إلى النبلاء ، أو ربما تظن نفسها من النبلاء لولا عوزها لبعض الخصائص التي تفصلها عن تبوء رتبة النبيل ,  قد درس في كلية الحقوق ليتخرج منها برتبة مشرفة ، مما فتح أمامه أبواب الانخراط في الحياة المهنية بسلمها التراتبي على مصاريعها , و منها أنْ وَلي مناصب شتى ما يكاد يضع ساقه اليسرى على كرسيها حتى يرنو إلى ما هو أرقى منها و تصبو نفسه إلى المزيد  .. لا سيما و هو يحنق من تقلّد غيره لهذه المكانة و لا يرى ما يعوزه حتى يقل شأنا عن رئيسه ..

من هنا ترتسم ملامح العمى بلغة جوزيه ساراماغو في رائعته العالمية ''العمى'' و بعبارة جورج هربرت ويلز في ''بلد العميان'' و بلغة القرآن الطافح بعبارات رمزية تستهدف العمى و الظلمات كمقابل للبصيرة و النور (الأنعام 104 ، الفرقان 73 ، الروم 53 ) . و يعد نسيان الذات داخل المنظومة الاجتماعية التي أطلقت عليها ''حنا ارندت'' عبارة ''السيستام'' ، من أبرز تجليات هذا العمى بما هو سيادة ذات خيالية مزيفة و وهمية تحجب الذات الحقيقية بحُجب حياة زائفة و مخادعة تقوم على عيش الدور ، ارتقاء الشكل و الصورة إلى مُصاف المحددات الكبرى للهوية الشخصية على حساب الجوهر و الماهية  .

هنا تنتصب نتيجة السقوط في هذا الشراك ؛ إهدار أثمن فرصة لا في الحياة ، إنما في الوجود ألا وهي  فرصة الحياة ذاتها . ذلك أنها لا تتكرر أبدا ، هنالك نفقه معنى مقولة جون بول سارتر '' عرفنا كل شيء في الحياة ، إلا كيف نعيشها ''

و لأن قصة تولستوي تتخذ من الموت موضوعة رئيسة لها ، دون إهمال التعريض بالنمط الاجتماعي السائد في بيئة هذا الأديب العالمي بما في ذلك تعاطي المحيط العائلي و المهني للهالك مع هذه الحادثة سنسلط أضواء الدراسة على هذين المحورين تياعا .

ما الموت ؟ و ماهي أوجه التمثل الواهم له ؟

هذا السؤال الذي أجدني مضطرا لطرحه كمدخل لا فكاك منه منهجيا للطرح النقدي لهذا العمل البديع ، لا يقل إحراجا عن أعمال تولستوي نفسها ، لكنه إحراج متأت من غفلتنا المتوارثة عن طرح سؤال الماهية (ما؟) لدرجة أن أمست الإجابة بدَهية و مبتذلة من فرط الاجترار الجمعي لمفاهيم الموت و الحياة متجسدة في سرديات قوامها كليشيهات تمجد الحياة بمعناها السائد مقابل تأثيم الموت بمعناه السائد أيضا .

و قد ألقت هذه السرديات بظلالها على التصور الجماعي و التمثل الفردي  لهذه المفاهيم  التي عانت الإِلفة  لدرجة نبذ من تسول له نفسه إعادة الطرح إن لم يُرمَ بالجنون ، و صارت الحياة مختزلة في نبض القلب ، و أضحى الموت عدما محضا خليق بأن نتهيّبه و نسلك كل السبل الممكنة بغية التفصي منه ، و لو إلى حين ، و أمسى الدعاء المجاملاتي لمن يسمع أو يرى نعمة البنوة أو الأبوة أو الأمومة على أحدهم  : ربي  يفضلهملك: بمعنى البقاء ، و أضحى مجرد تخيل أو افتراض الموت نذير شؤم ، و فأل سوء ، فهُرع القوم إلى اتخاذ الاحتياطات ، و إلى إنفاق طائل الأموال من أجل التعافي من مرض قد يكون سببا لزيارة هادم اللذات ، في عملية  هروب إلى الأمام  علاوة على صبغتها الفاضحة تشكو عوزا ، بل فقرا  في بعد النظر ، و كأنهم لم يلحظوا بالتجربة قانون الزوال يسري على جميع الممكنات ، و كأنهم سيظفرون بما عجز عنه ''غلغامش''..

إن نظرة تأملية  بعين البصيرة ، كفيلة بحصول ارتجاج صلب المفاهيم السائدة عن الحياة و الموت مفسحة المجال لذرات الوعي البديل بتشكيل تصورات بديلة بدورها عن حقائق الموت و الحياة : سيما في ظل الوقوف على حقيقة تفاهة الحياة بمفهومها القديم القائم على الفترة التي يقضيها المرء بين يوم خروجه من رحم أمه حتى  يوم توقف دماغه ، و هو زمن في حكم الصفر إذا أنتَ قارنته بما سبق الولادة من زمن ، و هو زمن مقداره الصفر عينه إن أنت قارنته بما يلي الوفاة من زمن ، و فضلا عن هامشية الحياة بمفهومها القديم بالنسبة للزمن ، فلا مفر من حقيقة هامشية الذات بالنسبة للإنسانية ، فوفاتكَ لن تنهي العالم كما يقول ''جورج برناردشو'' ، و لن تتسبب في انهيار البورصة ، و لن تؤثر على نظام الوجود ، و موتك هو حدث عابر لا يكاد يختلف عن موت ملايير البكتيريا يوميا و هي كائنات حية لا تختلف عنك إلا بملكة الوهم التي عبر عنها ''البير كامو'' بقوله :'' إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني أبدو مختلفا عن تلك الشجرة'' ، و حتى الكائنات العاقلة فهي تشهد وفاة ثلاثة أشخاص كل ثانية ، و أذكر هنا أنني كنت أمارس قبل شهرين تأملا عابرا لكنه فاجع ، كان ذلك في قطار الأنفاق ، و ماهو بقطار أنفاق في تونس  حين كنت أقطع الطريق الفاصلة بين مقر السكنى و مؤسسة الدراسة أنظر من النافذة حتى الشرود البصري متذكرا هذه الإحصائية متأكدا أنه في اللحظة التي أموت فيها سيمر نفس القطار من نفس المكان و قد يطل أحدهم من نفس النافذة المهشمة التي منها أطلّ لكنه من المستبعد أن يكون يفكر في ما فيه أفكر..

أما تولوستوي فقد عالج هذه القضية ؛ أعني وقْع الموت لدى المحيط الاجتماعي للميت الذي أسميه العابر و يسميه الغافلون تسمية فضيعة اكتسبت الترحيب الرسمي و المؤسساتي : الهالك ، فأثارت قصته المشكل المتعلق أهمية  موت قاض نبيل ذي مكانة اجتماعية  مرموقة ؟ هنا يختلف الموقف بحسب متلقيه و لكنه لا يغير من حال الهامشية شيئا ؛ فأما الغير فيكون موقفه موقف الفرح ؛ ذلك أنه ليس هو الميت ، و الذي يبلغه الخبر يتساءل بعفوية ؛ هلل كانت له ثروة ؟ ، أما الزميل في العمل فيعبر قائلا : سأحصل على زيادة قدرها مائة و خمسين دينارا مع نفقات المنصب ، و هو الذي كان يحسد إيفان لتمتعه بصلاحية الدخول على رئيس المحكمة دون إذن ، و قد يكون موقف الزوجة أدنى إلى احترام كيان هذا المضهوم الجانب ، لكنها توقعات في غير محلها ، فهي تتذكر بسرعة مال التقاعد من الخزينة ، أما زملاء لعب الورق فيفكرون إمكانية  تعيين إخوتهم  بالدائرة أو بالمنصب ، و هم اللذين لم يحل موت زميلهم في اللعب دون استمراره ليلة الوفاة متذكرين الحالة في مستهل اللعبة مسارعين في نسيان المسألة حتى لا يتكدر مرحهم و زهوهم ...

فهذا الميت لم تكن له أهمية إلا بالنسبة إليه هو ، أما بالنسبة للغير فهو مجرد رقم  ، و هي حقيقة  على بساطتها تشكو فقر التأمل بشأنها  ''كانت قصة إيفان إيليتش من أبسط القصص و أكثرها عادية و أشدها فضاعة '' ...

و هذه الفضاعة تجعلها حَرية بإعادة الاعتبار لفردية المصير (الأنعام 94 + مريم 95 ) : فأية حياة هذه التي تنحشر بين الأزل و الأبد ، بين زمان قبلي سحيق و زمان بعدي مديد ، من هنا تَحتم الوقوف على زيف هذا المعنى المتبنى للحياة ، فما كنا نسميه حياة ليس إلا محطة من محطاتها الفسيحة ، و مربضا من مرابضها الرحبة  ، و إن شئت فقل مع باولو كويليو في ( الألف ) عربة من عربات القاطرة . و إذا نحن استعرنا المعجم الصوفي فهي خمس عربات و آية البقرة 28 تؤيد هذا القول: عربة الذرّ ، عربة ما نسميه بالحياة ، عربة البرزخ ، عربة المحشر ، و عربة الجزاء ، و هنا يلاحظ أن العربة الثانية هي أقصر العربات و هو مرد توصفها ''بالدنيا'' ، و مقابلها الآخرة و هي التي سماها القرآن الحياة (الفجر 24 ) . فتبين كيف حصلت عملية تحويل وجهة دلالية لمفهوم الحياة . و إذا كان قد بقي في نفسك شكّ مما أقدم كطرح  فتأمل في وضعك لما كنتَ جنينا في رحم أمك و هَبْ أنك تتوفر على وعي ما ، هل كنتَ ستتخيل بعدا آخر لحياتك ؟ قطعا لا ، قطعا و ألف قطع . ألن يذهبن في ظنك أن الحياة مختزلة في الرحم كإطار أوحد لها و ليس بعده إلا الموت بما هو عدم محض ؟ لكنك في لحظة الولادة ستجدك معانقا لبعد آخر من أبعاد الوجود ، له قوانينه المختلفة ، بل ستسميه الحياة منكرا تسنيتتها على المرحلة السابقة التي تعفسفت في تجريدها من صفة الحياة لدرجة اقصا فترتها من عمرك .. فما اذي لا يمنع تفتق أبعاد أخرى عند لحظة الموت ، فتأمَّل و لا تقع في الخذلان كما يقول ابن عربي . و بمناسبة ذكر ابن عربي يمكن لهذا المعنى إذا ما نحن استكنهناه إن يبرر لنا لحظات فارقة في تاريخ الإنسانية من ذلك رقصة الحلاج عند صلبه و الأبياتالعميقة المعنى الذي خلفها السهروردي المقتول على شاهد قبره ، كذلك ما تركه الرومي ،  و الطريقة السلسة و المبسطة التي شرب بها سقراط سم الشوكران ، سقراط الذي لا يرى الموت أكثر من نوم بلا أحلام أو هجرة الروح إلى بارئها . إنها لحظات تفيض بسعادة انفصال الروح عن الجسد فهو تصالح للروح مع نفسها كما كان يقول هيغل . و ليست محاطة بأجواء النحيب القاتمة كما استقر في عادات الغافلين المحتجَبين الذين يعتبرون الموت '' مناسبة أليمة '' . و هم في الحقيقة محقون فهي أليمة لكنها على من اعتبرها بوابة للفناء و العدم .

تأمل كيف أن الذي نسميه نحن بالموت فهو عملية ''إسكال'' وفق معجم الملاحة الجوية : عملية عبور من محطة إلى اخرى في صرح الوجود اللامتناهي ، بيد أنه من التعامي إنكار مشروعية خوفنا منه ، لكن نخاف منه كمجهول لا كعدم  . و حق لنا ذلك فالناس لما يجهلون أعداء كما قال علي بن أبي طالب ، و الناس لما يجهلون مرتابون ، أما ترى أن التحفظ و الاحتراز يبدوان على كل من التقى بغريب ، كذلك نحن نهاب الموت لأنه مجهول لا لأنه عدم  و لو أننا خبَرنا الموت لما وجدناه على تلك الحال التي تخيلنا ، سرداب مظلم وبئر ظلماء بلا قاع ، و دليل ذلك تلك الروايات الصادرة عن عشرات الألوف من الخائضين لتجربة الاقتراب من الموت ؛ أصروا جميعهم على عيشهم لحب غامر و احتضانهم من قبل بيئة مقرِّبة غير منفِّرة ؛ و بالفعل ( يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) هكذا حدَّثت سورة الفجر

وفق هذه المراجعة على صعيد التصورات ، يتحتم إعادة نظر في مفهوم الحي و مفهوم الميت .  فرب حي ميت و رب ميت حي  أو كما قال سميح القاسم ذان أمسية شعرية : أيها الموتى بلا موت !  سئمت الحياة بلا حياة ، و العجيب أن هذا المفهوم الثوري الانقلابي يتبناه القرآن كما يتجلى في الآية الواحدة و العشرين من سورة النحل في وصفه لشريحة منا معشر الهوموسابيانز :  أحياء غير أموات .. .  و إذا ما كان الأحياء أموات ، كيف تكون ملامح المجتمع الذي فيه يعيشون ، ذلكمم هو ما كرست له قصة تولوستوي حيزا مضمونيا هاما .

الميت : الملامح الاجتماعية لشخصية إيفان
لعلنا لا نبالغ ، بل نحن لا نبالغ إذا اعتبرنا أن المركز الاجتماعي هي القضية المحورية المطروقة صلب القصة ، و ليس ذلك بغريب على كتابات تولستوي الذي شهد شأنه في ذلك شأن عَظُم الأدباء الروس الثنائية الطبقية و ما انجر عنها من استتباعات واقعية .
على أن تولستوي و إذ يعالج الأسقام الاجتماعية في محيطه لم يكن يصدر عن أخيلة هلامية إنما كان يتخذ من صميم الواقع المعيش منطلَقا محفزا لإبداعه الأسود ، و نبراسا قاتما يستظل بظله الأقلّ قتامة عسى أن تخفف الكتابة عموما و الأدب خصوصا من وطأة الصدمة التي يتردى فيها الأديب.
و لما كان المجتمع الذي يخضعه تولتستوي لتشريخا أدبيّ الطابع يتسم بسيادة الصفات و المكانات و المراكز كمعايير محددة حصريا للقيمة الإنسانية ليس في محيطها الاجتماعي فقط بل في مرآتها الذاتية ايضا و أعني بشيوع هذه القيم ، أن تكون تُختزل الذات في الصفات.  فحينما يُشرع في دفن القاضي مثلا هل يقال سندفن القاضي أم سندفن الميت ؟؟

و علاوة عن هيمنة حياة الصفات و الزوائد و اللواحق (الدكتور فلان ، رئيس الهيكل الكذائي فلان .. ) يضع تولستوي ضربا آخر من ضروب الأمراض المجتمعية تحت مطرقته الناقدة ، و هو مرض البيروقراطية الإدارية، يتجلى ذلك عندما يخلق شخصية مستشار شخصي يصفه بأنه العضو الذي لا حاجة إليه في عديد الإدارات التي لا حاجة إليها . كذلك لم يغفل التدخلات الدموية في الميادين الإدارية التي لا تكون إلا على حساب معيار الكفاءة و تكافؤ الفرص المنضبطين لمبدأ المساواة ، فبطلنا عُين في المحكمة بتدخل من والده . و هي أعراض تفهم في سياق حالة سوسيولوجية  تتسم بالهيمنة و السلطة فمجتمع اليوم و هو مجتمع تولستوي غداة الثورة الصناعية بمثابة سيستام يتألف من مؤسسات متراتبة يسلط الرئيس قهره على المرؤوس ، يسلط العمدة جوره على فلاح فقير من خلال استيلائه على أرضه , ثم يستولي المعتمد على الأرض التي أصبحت على ملكية العمدة ، ثم يتعرض المعتمد إلى الظلم من قبل  ''شاوش'' الولاية  الذي يتعرض بدوره إلى غطرسة كاهية مدير ديوان بالوزارة ، الذي لا يقدر على صد  تحيل عصابة متنفذة داخل البلاد ''كالطرابلسية'' في تونس ، التي لا تقدر بدورها على حرمان المافيات العالمية من حصتها .. و هكذا فوق كل ذي سلطة متسلط و فوق كل ذي قهر قاهر فوق عباده .. كذلكم كان إيفان مُغرما بعمله و مبتهجا بقدرته على الزج بالناس في السجن .. و كذلكم كان زملاءه يكنون له الغيرة و الأحساد على منزلته و خاصة و صلاحيته في الدخول على رئيس المحكمة بلا إذن خلافا لوضعياتهم .

و من جملة المؤسسات التي يتركب منها السيستام  نجد مؤسسة الطبيب ؛ فقد أصيب إيفان بمرض غريب و لما زار الطبيب فوجئ ''بالأسئلة الاعتيادية التي تتطلب أجوبة اعتيادية''  مبتذلة و معروفة ولا جدوى منها فيمارس عليه الطبيب الغافل بدوره سلطته من خلال تحدثه بلغة معقدة تقوم أعراض و أمراض و افتراضات و حلول ، بحدة و صرامة .  أما إيفان فكل ما يعنيه هو سؤال وحيد هل المرض خطير أم لا , و لما سأله إياه كان رد الطبيب أنْ ''رماه من تحت نظارته بنظرة قاسية و كأنه يقول له : أيها المتهم إذا لم تلتزم حدود الأسئلة التي نطرحها عليك سوف نضطر إلى إخراجك من القاعة '' .  و كأنه يقول له نحن نعرف تماما ماذا نفعل ، وما  عليكم إلا طاعتنا .. ذات الطاعة التي كان يفرضها إيفان في الجلسة ، فكما أنه كان يمثل ملهاة أمام المتهمين كان الطبيب هنا يمثلها أمامه و هكذا بالنسبة لشتى مفاصل السيستام . و لعل سلطة الطبيب هذه ، مما ألهم ميشال فوكو لإنجاز عمله الانتوبولجي الهام ''مولد العيادة'' .

كذلك من بين القضايا المستدعاة ، مسألة لا تقل خطورة عن سابقاتها و هي مساهمة المجموعة في تحديد المعايير الأخلاقية حيث تسحيل الفضيلة ما يتواضع عليها الأغلبية على أنها فضيلة لا ماهي فضيلة بحكم مقوماتها و خاصياتها . و هو سلوك تصدى له علماء النفس و أطلقوا عليه تسمية ''عمى التتكيّف '' أو عمى التأقلم  و إسقاط ذلك على إيفان إيليتش يكمن في أنه لما كان في كلية الحقوق ارتكب أعمالا  دنيئة , و كان يشمئز منها حتى وهو يقوم بها . لكن عندما شاهد فيما بعد أن أناسا في المراكز العليا يرتكبون الأعمال نفسها و لا يعدونها سيئة نسيها تماما و لم تعد ذكراها تعذبه  . '' و كان له في المقاطعة مجونات و علاقات غرامية لكن كما يقول المثل الفرنسي يجب أن نغفر للشباب طيشهم  خصوصا و كانت هذه  الأشياء تعمل  بثياب جديدة ,  وصحبة حسنة و خصوصا بموافقة الأشخاص الرفيعي المكانة اللذين يحرص إيفان على استدعاءهم و ذلك مبلغ سعادته ، و تلك سعادة الغافلين ....

أما عن حياة إيفان الخاصة فهي محكومة بالطابع الميكانيكي و سيادة الشكليات و البروتوكولات و الإيتيكات عليها من حيث هي مقتضى من مقتضيات غفلته مقابل فتور المشاعر . فقد حرص على أن يؤثث منزله بأثاث عتيق يحاكي ذلك الذي يملكه النبلاء و حرص على مداعبة زوجته و المرح معها.. لكنه  ما لبث أن تغير الوضع  بعد ملله و مطالبتها إياه بالعناية و الاهتمام بها نتيجة قضائه لأوقاته مع أصداقته في لعب الورق ،  و غيرتها المبالغ فيها . مما ولد مشاعر الكره الدفين المغلف بالمجاملات  بينهما . فبدأ يتذمر من الطعام و من كل شيء ...

و مما عمق تناقضات علاقته الزوجية دخوله في المرض الخطير تصاعدي الخطورة ، وسط تعاط لا مبال محاط بالكذب و المجاملات من قبل زوجته و أبناءه اللذين لم يحل مرض موت والدهم دون التحاقهم بقاعات السينما ، ذلكم هو السبب الذي تمنى من أجله الموت إضافة إلى أوجاع المرض المؤلمة . ثم هاهو يشعر بالموت بل  يراه داهما ، رأى نفسه على حافة الهاوية ، أفزعه الموت , تسائل أسئلة انطولوجية من قبيل ماالذي حدث ، ماذا كان , و ما يكون و ما سيكون بعد أن أموت ؟ إلى أين أنا ذاهب , إلى العدم ؟ سمع أصوات العائلة و هم يستقبلون العُوَّد . اغتاظ منهم على عدم اكتراثهم بل تضرمهم منه . لكنه احتقرهم لأنهم هم أيضا لا فكاك لهم من الموت و لا مفر من نفس المصير . '' يا للحمقى يا للبلهى ''

ثم هاهي زوجته تعود متأخرة إلى المنزل بعد قضائها لحفلة مع الأبناء , فتسأله  عن حجم الألم الذي ألمّ به, فيكون جوابه أن يسألها عن جدوى السؤال و جدوى الجواب , نصحته بالأفيون الذي تناوله فاستغرق في النوم . و لما أفاق استغرق في البكاء كالطفل ، انتحب على الوحدة و قسوة الناس و قسوة الله و سأل سؤال العلة , و لم ينتظر الجواب بل كان يبكي لأن سؤال العلة لا جواب له ...

و بينا هو في غمرات نهاية المرض و بداية الموت سأله صوت باطني :  إلام تحتاج ؟ فقال إلى أن أحيا ، فردّ عليه ، كيف ؟ فأجاب ،  ''كما كنت أحيا من قبل'' فسأله ثانية ، '' و أي حياة كنت تحيا '' هنالك استرجع ذكرياته فإذا به يرى بأم عينيه ما كان يعتبره سعادة في الحياة إنما هي أكذوبة الأكاذيب و مزيد في الفراغ ،  ماعدا سنوات الطفولة '' كنت كأني أهبط سفحا و أنا أظن أني أصعد بل بالفعل في نظر الرأي العام كنت أصعد لكني في الواقع كن أنحدر  على الأسفل  و كانت الحياة تهرب مني , و ها أنذا و قد انتهى كل شي ''

وفي نهاية دراماتيكية للقصة و لحياة إنسان كان يظنها حياة قاض يدخل في نفق الموت الذي سنلجه جميعنا بعد تخبط في كيس أسود  ينقذف فيه انقذافا مما عمق عذاباته لكنه لا يسقط ثم دفعته قوة و سقط إلى القاع ..  حتى التمع أمامه شيء  كالنور فاكتشف ان حياته لم تكن كما كان ينبغي ان تكون . و كانت آخر كلمة يتلفظ بها '' إني أشفق عليكم '' .... ! فإذا به في عالم ملكوتي مزهر و يفيض كرما و محبة : '' ما أحسن ذلك و ما أبسطه , أين الألم , أين الموت '' لقد مات الموت  .


تلكم هي أطوار حياة قاض عالج قضايا كل الناس اعدا قضيته  

أما عن تولستوي ،صاحب القصة، فإني أراه ماثلا أمام محاكمة سؤال الحتمية و الاختيار الحر فماذا لو كان بقصته هذه يواسي نفسه و يبرر واقع حاله الطبقي  ، فهل تراه ثابتا على رؤيته الانطولوجية  ذاتها لو نشأ في بيئة نبيلة ..

موت إيفان إيليتش لليون تولستوي : مقاربة غير نقدية

إذا ما نحن رُمنا وصمَ كتابات ''ليون تولستوي'' بأحد النعوت ، ملتمسين أدناها إلى التعبير عن كنهها ،  لن نتردد كثيرا في اختيار...