إذا ما نحن
رُمنا وصمَ كتابات ''ليون تولستوي'' بأحد النعوت ، ملتمسين أدناها إلى التعبير عن
كنهها ، لن نتردد كثيرا في اختيار صفة
الإحراج ؛ إحراج انطوائي لا انبساطي بلغة
كارل غوستاف يونغ ، فهو ذاتيّ المبعث و المحل ّ، ذلك أن مطروح من قبل الذات ،
منصبّ على الذات
و هوأمر
بدهي لمن يجد نفسه في رحاب كلمات تخز الضمير و تشعر القارئ بخسته أو على الأقل إذا أبى إلا أن يحصن ذاته عن
الخضوع لحقيقة التفاهة ، خسة العالم المحيط به ، الذي تعسّف حين عدّه الإطار
الأوحد للوجود بما هو وجود ، ''الديزاين'' بالمفهوم الهايديغيري إن جاز التوصيف .
و كيف لا
تريدها محرجة و قد اتخذت من الحياة على عمومها مناطا لها , فتولوستوي يصطحبك معه
إلى تأمل غائي تيليولوجي للوجود مسلطا أضواء
الإنكار والاستهجان على ما ساد من قيم بديلة جماعها الإيغو ، تجلياتها عيش الدَّور
، الوهم ، التنافس , التكاثر , الحسد , اختزال الحقيقة في الصورة على حساب الجوهر
، الاعتداد بالجاه كمحدد لقيمة الإنسان ، و المكانة كمعيار للترقي الاجتماعي التي تؤثر في وزن الشخصية الإنسانية في مرآة
ذاتها و في مرائي غيرها من المتردين في ذات الفخّ أيما تأثير .
و لعل
إطلالة عَجلى على حيثيات القصة تكون كفيلة باستجلاء ملامح الصبغة الإحراجية التي
تثيرها ؛ ف''إيفان'' وُلد لعائلة من الطبقة الوسطى التي تسعى لأن تنتسب إلى
النبلاء ، أو ربما تظن نفسها من النبلاء لولا عوزها لبعض الخصائص التي تفصلها عن
تبوء رتبة النبيل , قد درس في كلية الحقوق
ليتخرج منها برتبة مشرفة ، مما فتح أمامه أبواب الانخراط في الحياة المهنية بسلمها
التراتبي على مصاريعها , و منها أنْ وَلي مناصب شتى ما يكاد يضع ساقه اليسرى على
كرسيها حتى يرنو إلى ما هو أرقى منها و تصبو نفسه إلى المزيد .. لا سيما و هو يحنق من تقلّد غيره لهذه
المكانة و لا يرى ما يعوزه حتى يقل شأنا عن رئيسه ..
من هنا
ترتسم ملامح العمى بلغة جوزيه ساراماغو في رائعته العالمية ''العمى'' و
بعبارة جورج هربرت ويلز في ''بلد العميان'' و بلغة القرآن الطافح بعبارات رمزية
تستهدف العمى و الظلمات كمقابل للبصيرة و النور (الأنعام 104 ، الفرقان 73 ، الروم
53 ) . و يعد نسيان الذات داخل المنظومة الاجتماعية التي أطلقت عليها ''حنا
ارندت'' عبارة ''السيستام'' ، من أبرز تجليات هذا العمى بما هو سيادة ذات خيالية
مزيفة و وهمية تحجب الذات الحقيقية بحُجب حياة زائفة و مخادعة تقوم على عيش الدور
، ارتقاء الشكل و الصورة إلى مُصاف المحددات الكبرى للهوية الشخصية على حساب
الجوهر و الماهية .
هنا تنتصب
نتيجة السقوط في هذا الشراك ؛ إهدار أثمن فرصة لا في الحياة ، إنما في الوجود ألا
وهي فرصة الحياة ذاتها . ذلك أنها لا
تتكرر أبدا ، هنالك نفقه معنى مقولة جون بول سارتر '' عرفنا كل شيء في الحياة ،
إلا كيف نعيشها ''
و لأن قصة
تولستوي تتخذ من الموت موضوعة رئيسة لها ، دون إهمال التعريض بالنمط
الاجتماعي السائد في بيئة هذا الأديب العالمي بما في ذلك تعاطي المحيط العائلي
و المهني للهالك مع هذه الحادثة سنسلط أضواء الدراسة على هذين المحورين تياعا .
ما الموت ؟
و ماهي أوجه التمثل الواهم له ؟
هذا السؤال
الذي أجدني مضطرا لطرحه كمدخل لا فكاك منه منهجيا للطرح النقدي لهذا العمل البديع
، لا يقل إحراجا عن أعمال تولستوي نفسها ، لكنه إحراج متأت من غفلتنا المتوارثة عن
طرح سؤال الماهية (ما؟) لدرجة أن أمست الإجابة بدَهية و مبتذلة من فرط الاجترار
الجمعي لمفاهيم الموت و الحياة متجسدة في سرديات قوامها كليشيهات تمجد الحياة
بمعناها السائد مقابل تأثيم الموت بمعناه السائد أيضا .
و قد ألقت
هذه السرديات بظلالها على التصور الجماعي و التمثل الفردي لهذه المفاهيم
التي عانت الإِلفة لدرجة نبذ من
تسول له نفسه إعادة الطرح إن لم يُرمَ بالجنون ، و صارت الحياة مختزلة في نبض
القلب ، و أضحى الموت عدما محضا خليق بأن نتهيّبه و نسلك كل السبل الممكنة بغية
التفصي منه ، و لو إلى حين ، و أمسى الدعاء المجاملاتي لمن يسمع أو يرى نعمة
البنوة أو الأبوة أو الأمومة على أحدهم :
ربي يفضلهملك: بمعنى البقاء ، و أضحى مجرد
تخيل أو افتراض الموت نذير شؤم ، و فأل سوء ، فهُرع القوم إلى اتخاذ الاحتياطات ،
و إلى إنفاق طائل الأموال من أجل التعافي من مرض قد يكون سببا لزيارة هادم اللذات
، في عملية هروب إلى الأمام علاوة على صبغتها الفاضحة تشكو عوزا ، بل
فقرا في بعد النظر ، و كأنهم لم يلحظوا
بالتجربة قانون الزوال يسري على جميع الممكنات ، و كأنهم سيظفرون بما عجز عنه
''غلغامش''..
إن نظرة
تأملية بعين البصيرة ، كفيلة بحصول ارتجاج
صلب المفاهيم السائدة عن الحياة و الموت مفسحة المجال لذرات الوعي البديل بتشكيل
تصورات بديلة بدورها عن حقائق الموت و الحياة : سيما في ظل الوقوف على حقيقة تفاهة
الحياة بمفهومها القديم القائم على الفترة التي يقضيها المرء بين يوم خروجه من رحم
أمه حتى يوم توقف دماغه ، و هو زمن في حكم
الصفر إذا أنتَ قارنته بما سبق الولادة من زمن ، و هو زمن مقداره الصفر عينه إن
أنت قارنته بما يلي الوفاة من زمن ، و فضلا عن هامشية الحياة بمفهومها القديم
بالنسبة للزمن ، فلا مفر من حقيقة هامشية الذات بالنسبة للإنسانية ، فوفاتكَ لن
تنهي العالم كما يقول ''جورج برناردشو'' ، و لن تتسبب في انهيار البورصة ، و لن
تؤثر على نظام الوجود ، و موتك هو حدث عابر لا يكاد يختلف عن موت ملايير البكتيريا
يوميا و هي كائنات حية لا تختلف عنك إلا بملكة الوهم التي عبر عنها ''البير كامو''
بقوله :'' إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني أبدو مختلفا عن تلك الشجرة'' ، و حتى
الكائنات العاقلة فهي تشهد وفاة ثلاثة أشخاص كل ثانية ، و أذكر هنا أنني كنت أمارس
قبل شهرين تأملا عابرا لكنه فاجع ، كان ذلك في قطار الأنفاق ، و ماهو بقطار أنفاق
في تونس حين كنت أقطع الطريق الفاصلة بين
مقر السكنى و مؤسسة الدراسة أنظر من النافذة حتى الشرود البصري متذكرا هذه
الإحصائية متأكدا أنه في اللحظة التي أموت فيها سيمر نفس القطار من نفس المكان و
قد يطل أحدهم من نفس النافذة المهشمة التي منها أطلّ لكنه من المستبعد أن يكون
يفكر في ما فيه أفكر..
أما
تولوستوي فقد عالج هذه القضية ؛ أعني وقْع الموت لدى المحيط الاجتماعي للميت الذي
أسميه العابر و يسميه الغافلون تسمية فضيعة اكتسبت الترحيب الرسمي و المؤسساتي :
الهالك ، فأثارت قصته المشكل المتعلق أهمية
موت قاض نبيل ذي مكانة اجتماعية
مرموقة ؟ هنا يختلف الموقف بحسب متلقيه و لكنه لا يغير من حال الهامشية
شيئا ؛ فأما الغير فيكون موقفه موقف الفرح ؛ ذلك أنه ليس هو الميت ، و الذي يبلغه
الخبر يتساءل بعفوية ؛ هلل كانت له ثروة ؟ ، أما الزميل في العمل فيعبر قائلا : سأحصل
على زيادة قدرها مائة و خمسين دينارا مع نفقات المنصب ، و هو الذي كان يحسد إيفان
لتمتعه بصلاحية الدخول على رئيس المحكمة دون إذن ، و قد يكون موقف الزوجة أدنى إلى
احترام كيان هذا المضهوم الجانب ، لكنها توقعات في غير محلها ، فهي تتذكر بسرعة
مال التقاعد من الخزينة ، أما زملاء لعب الورق فيفكرون إمكانية تعيين إخوتهم
بالدائرة أو بالمنصب ، و هم اللذين لم يحل موت زميلهم في اللعب دون
استمراره ليلة الوفاة متذكرين الحالة في مستهل اللعبة مسارعين في نسيان المسألة
حتى لا يتكدر مرحهم و زهوهم ...
فهذا الميت
لم تكن له أهمية إلا بالنسبة إليه هو ، أما بالنسبة للغير فهو مجرد رقم ، و هي حقيقة
على بساطتها تشكو فقر التأمل بشأنها
''كانت قصة إيفان إيليتش من أبسط القصص و أكثرها عادية و أشدها فضاعة ''
...
و هذه الفضاعة تجعلها حَرية بإعادة الاعتبار لفردية المصير (الأنعام 94 +
مريم 95 ) : فأية حياة هذه التي تنحشر بين الأزل و الأبد ، بين زمان قبلي سحيق و
زمان بعدي مديد ، من هنا تَحتم الوقوف على زيف هذا المعنى المتبنى للحياة ،
فما كنا نسميه حياة ليس إلا محطة من محطاتها الفسيحة ، و مربضا من مرابضها
الرحبة ، و إن شئت فقل مع باولو كويليو في
( الألف ) عربة من عربات القاطرة . و إذا نحن استعرنا المعجم الصوفي فهي خمس عربات
و آية البقرة 28 تؤيد هذا القول: عربة الذرّ ، عربة ما نسميه بالحياة ، عربة
البرزخ ، عربة المحشر ، و عربة الجزاء ، و هنا يلاحظ أن العربة الثانية هي أقصر
العربات و هو مرد توصفها ''بالدنيا'' ، و مقابلها الآخرة و هي التي سماها القرآن
الحياة (الفجر 24 ) . فتبين كيف حصلت عملية تحويل وجهة دلالية لمفهوم الحياة . و إذا
كان قد بقي في نفسك شكّ مما أقدم كطرح
فتأمل في وضعك لما كنتَ جنينا في رحم أمك و هَبْ أنك تتوفر على وعي ما ، هل
كنتَ ستتخيل بعدا آخر لحياتك ؟ قطعا لا ، قطعا و ألف قطع . ألن يذهبن في ظنك أن
الحياة مختزلة في الرحم كإطار أوحد لها و ليس بعده إلا الموت بما هو عدم محض ؟
لكنك في لحظة الولادة ستجدك معانقا لبعد آخر من أبعاد الوجود ، له قوانينه
المختلفة ، بل ستسميه الحياة منكرا تسنيتتها على المرحلة السابقة التي تعفسفت في
تجريدها من صفة الحياة لدرجة اقصا فترتها من عمرك .. فما اذي لا يمنع تفتق أبعاد
أخرى عند لحظة الموت ، فتأمَّل و لا تقع في الخذلان كما يقول ابن عربي . و بمناسبة
ذكر ابن عربي يمكن لهذا المعنى إذا ما نحن استكنهناه إن يبرر لنا لحظات فارقة في
تاريخ الإنسانية من ذلك رقصة الحلاج عند صلبه و الأبياتالعميقة المعنى الذي خلفها
السهروردي المقتول على شاهد قبره ، كذلك ما تركه الرومي ، و الطريقة السلسة و المبسطة التي شرب بها سقراط
سم الشوكران ، سقراط الذي لا يرى الموت أكثر من نوم بلا أحلام أو هجرة الروح إلى
بارئها . إنها لحظات تفيض بسعادة انفصال الروح عن الجسد فهو تصالح للروح مع نفسها
كما كان يقول هيغل . و ليست محاطة بأجواء النحيب القاتمة كما استقر في عادات
الغافلين المحتجَبين الذين يعتبرون الموت '' مناسبة أليمة '' . و هم في الحقيقة
محقون فهي أليمة لكنها على من اعتبرها بوابة للفناء و العدم .
تأمل كيف أن
الذي نسميه نحن بالموت فهو عملية ''إسكال'' وفق معجم الملاحة الجوية : عملية عبور
من محطة إلى اخرى في صرح الوجود اللامتناهي ، بيد أنه من التعامي إنكار مشروعية
خوفنا منه ، لكن نخاف منه كمجهول لا كعدم
. و حق لنا ذلك فالناس لما يجهلون أعداء كما قال علي بن أبي طالب ،
و الناس لما يجهلون مرتابون ، أما ترى أن التحفظ و الاحتراز يبدوان على كل من
التقى بغريب ، كذلك نحن نهاب الموت لأنه مجهول لا لأنه عدم و لو أننا خبَرنا الموت لما وجدناه على تلك
الحال التي تخيلنا ، سرداب مظلم وبئر ظلماء بلا قاع ، و دليل ذلك تلك الروايات
الصادرة عن عشرات الألوف من الخائضين لتجربة الاقتراب من الموت ؛ أصروا جميعهم على
عيشهم لحب غامر و احتضانهم من قبل بيئة مقرِّبة غير منفِّرة ؛ و بالفعل ( يا أيتها
النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) هكذا حدَّثت سورة الفجر
وفق هذه
المراجعة على صعيد التصورات ، يتحتم إعادة نظر في مفهوم الحي و مفهوم الميت . فرب حي ميت و رب ميت حي أو كما قال سميح القاسم ذان أمسية شعرية : أيها
الموتى بلا موت ! سئمت
الحياة بلا حياة ، و العجيب أن هذا المفهوم الثوري الانقلابي يتبناه القرآن كما
يتجلى في الآية الواحدة و العشرين من سورة النحل في وصفه لشريحة منا معشر
الهوموسابيانز : أحياء غير أموات ..
. و إذا ما كان الأحياء أموات ، كيف تكون
ملامح المجتمع الذي فيه يعيشون ، ذلكمم هو ما كرست له قصة تولوستوي حيزا مضمونيا
هاما .
الميت : الملامح
الاجتماعية لشخصية إيفان
لعلنا لا
نبالغ ، بل نحن لا نبالغ إذا اعتبرنا أن المركز الاجتماعي هي القضية المحورية المطروقة
صلب القصة ، و ليس ذلك بغريب على كتابات تولستوي الذي شهد شأنه في ذلك شأن عَظُم
الأدباء الروس الثنائية الطبقية و ما انجر عنها من استتباعات واقعية .
على أن
تولستوي و إذ يعالج الأسقام الاجتماعية في محيطه لم يكن يصدر عن أخيلة هلامية إنما
كان يتخذ من صميم الواقع المعيش منطلَقا محفزا لإبداعه الأسود ، و نبراسا قاتما
يستظل بظله الأقلّ قتامة عسى أن تخفف الكتابة عموما و الأدب خصوصا من وطأة الصدمة
التي يتردى فيها الأديب.
و لما كان المجتمع الذي يخضعه تولتستوي لتشريخا أدبيّ الطابع يتسم بسيادة الصفات
و المكانات و المراكز كمعايير محددة حصريا للقيمة الإنسانية ليس في محيطها
الاجتماعي فقط بل في مرآتها الذاتية ايضا و أعني بشيوع هذه القيم ، أن تكون تُختزل
الذات في الصفات. فحينما يُشرع في دفن
القاضي مثلا هل يقال سندفن القاضي أم سندفن الميت ؟؟
و علاوة عن
هيمنة حياة الصفات و الزوائد و اللواحق (الدكتور فلان ، رئيس الهيكل الكذائي فلان
.. ) يضع تولستوي ضربا آخر من ضروب الأمراض المجتمعية تحت مطرقته الناقدة ، و هو
مرض البيروقراطية الإدارية، يتجلى ذلك عندما يخلق شخصية مستشار شخصي يصفه بأنه
العضو الذي لا حاجة إليه في عديد الإدارات التي لا حاجة إليها . كذلك لم يغفل
التدخلات الدموية في الميادين الإدارية التي لا تكون إلا على حساب معيار الكفاءة و
تكافؤ الفرص المنضبطين لمبدأ المساواة ، فبطلنا عُين في المحكمة بتدخل من والده .
و هي أعراض تفهم في سياق حالة سوسيولوجية تتسم
بالهيمنة و السلطة فمجتمع اليوم و هو مجتمع تولستوي غداة الثورة الصناعية بمثابة
سيستام يتألف من مؤسسات متراتبة يسلط الرئيس قهره على المرؤوس ، يسلط العمدة
جوره على فلاح فقير من خلال استيلائه على أرضه , ثم يستولي المعتمد على الأرض التي
أصبحت على ملكية العمدة ، ثم يتعرض المعتمد إلى الظلم من قبل ''شاوش'' الولاية الذي يتعرض بدوره إلى غطرسة كاهية مدير ديوان
بالوزارة ، الذي لا يقدر على صد تحيل
عصابة متنفذة داخل البلاد ''كالطرابلسية'' في تونس ، التي لا تقدر بدورها على
حرمان المافيات العالمية من حصتها .. و هكذا فوق كل ذي سلطة متسلط و فوق كل ذي قهر
قاهر فوق عباده .. كذلكم كان إيفان مُغرما بعمله و مبتهجا بقدرته على الزج بالناس
في السجن .. و كذلكم كان زملاءه يكنون له الغيرة و الأحساد على منزلته و خاصة و
صلاحيته في الدخول على رئيس المحكمة بلا إذن خلافا لوضعياتهم .
و من جملة
المؤسسات التي يتركب منها السيستام نجد
مؤسسة الطبيب ؛ فقد أصيب إيفان بمرض غريب و لما زار الطبيب فوجئ ''بالأسئلة الاعتيادية
التي تتطلب أجوبة اعتيادية'' مبتذلة و معروفة
ولا جدوى منها فيمارس عليه الطبيب الغافل بدوره سلطته من خلال تحدثه بلغة معقدة تقوم
أعراض و أمراض و افتراضات و حلول ، بحدة و صرامة . أما إيفان فكل ما يعنيه هو سؤال وحيد هل المرض
خطير أم لا , و لما سأله إياه كان رد الطبيب أنْ ''رماه من تحت نظارته بنظرة قاسية
و كأنه يقول له : أيها المتهم إذا لم تلتزم حدود الأسئلة التي نطرحها عليك سوف
نضطر إلى إخراجك من القاعة '' . و كأنه
يقول له نحن نعرف تماما ماذا نفعل ، وما عليكم إلا طاعتنا .. ذات الطاعة التي كان يفرضها
إيفان في الجلسة ، فكما أنه كان يمثل ملهاة أمام المتهمين كان الطبيب هنا يمثلها
أمامه و هكذا بالنسبة لشتى مفاصل السيستام . و لعل سلطة الطبيب هذه ، مما
ألهم ميشال فوكو لإنجاز عمله الانتوبولجي الهام ''مولد العيادة'' .
كذلك من بين
القضايا المستدعاة ، مسألة لا تقل خطورة عن سابقاتها و هي مساهمة المجموعة في
تحديد المعايير الأخلاقية حيث تسحيل الفضيلة ما يتواضع عليها الأغلبية على أنها
فضيلة لا ماهي فضيلة بحكم مقوماتها و خاصياتها . و هو سلوك تصدى له علماء النفس و
أطلقوا عليه تسمية ''عمى التتكيّف '' أو عمى التأقلم و إسقاط ذلك على إيفان إيليتش يكمن في أنه لما
كان في كلية الحقوق ارتكب أعمالا دنيئة ,
و كان يشمئز منها حتى وهو يقوم بها . لكن عندما شاهد فيما بعد أن أناسا في المراكز
العليا يرتكبون الأعمال نفسها و لا يعدونها سيئة نسيها تماما و لم تعد ذكراها
تعذبه . '' و كان له في المقاطعة مجونات و
علاقات غرامية لكن كما يقول المثل الفرنسي يجب أن نغفر للشباب طيشهم خصوصا و كانت هذه الأشياء تعمل
بثياب جديدة , وصحبة حسنة و خصوصا
بموافقة الأشخاص الرفيعي المكانة اللذين يحرص إيفان على استدعاءهم و ذلك مبلغ
سعادته ، و تلك سعادة الغافلين ....
أما عن حياة
إيفان الخاصة فهي محكومة بالطابع الميكانيكي و سيادة الشكليات و البروتوكولات و
الإيتيكات عليها من حيث هي مقتضى من مقتضيات غفلته مقابل فتور المشاعر . فقد حرص
على أن يؤثث منزله بأثاث عتيق يحاكي ذلك الذي يملكه النبلاء و حرص على مداعبة
زوجته و المرح معها.. لكنه ما لبث أن تغير
الوضع بعد ملله و مطالبتها إياه بالعناية
و الاهتمام بها نتيجة قضائه لأوقاته مع أصداقته في لعب الورق ، و غيرتها المبالغ فيها . مما ولد مشاعر الكره
الدفين المغلف بالمجاملات بينهما . فبدأ
يتذمر من الطعام و من كل شيء ...
و مما عمق تناقضات علاقته الزوجية دخوله في المرض الخطير
تصاعدي الخطورة ، وسط تعاط لا مبال محاط بالكذب و المجاملات من قبل زوجته و أبناءه
اللذين لم يحل مرض موت والدهم دون التحاقهم بقاعات السينما ، ذلكم هو السبب الذي تمنى
من أجله الموت إضافة إلى أوجاع المرض المؤلمة . ثم هاهو يشعر بالموت بل يراه داهما ، رأى نفسه على حافة الهاوية ،
أفزعه الموت , تسائل أسئلة انطولوجية من قبيل ماالذي حدث ، ماذا كان , و ما يكون و
ما سيكون بعد أن أموت ؟ إلى أين أنا ذاهب , إلى العدم ؟ سمع أصوات العائلة و هم يستقبلون
العُوَّد . اغتاظ منهم على عدم اكتراثهم بل تضرمهم منه . لكنه احتقرهم لأنهم هم
أيضا لا فكاك لهم من الموت و لا مفر من نفس المصير . '' يا للحمقى يا للبلهى ''
ثم هاهي
زوجته تعود متأخرة إلى المنزل بعد قضائها لحفلة مع الأبناء , فتسأله عن حجم الألم الذي ألمّ به, فيكون جوابه أن يسألها
عن جدوى السؤال و جدوى الجواب , نصحته بالأفيون الذي تناوله فاستغرق في النوم . و
لما أفاق استغرق في البكاء كالطفل ، انتحب على الوحدة و قسوة الناس و قسوة الله و
سأل سؤال العلة , و لم ينتظر الجواب بل كان يبكي لأن سؤال العلة لا جواب له ...
و بينا هو
في غمرات نهاية المرض و بداية الموت سأله صوت باطني : إلام تحتاج ؟ فقال إلى أن أحيا ، فردّ عليه ،
كيف ؟ فأجاب ، ''كما كنت أحيا من قبل''
فسأله ثانية ، '' و أي حياة كنت تحيا '' هنالك استرجع ذكرياته فإذا به يرى بأم
عينيه ما كان يعتبره سعادة في الحياة إنما هي أكذوبة الأكاذيب و مزيد في الفراغ ، ماعدا سنوات الطفولة '' كنت كأني أهبط سفحا و
أنا أظن أني أصعد بل بالفعل في نظر الرأي العام كنت أصعد لكني في الواقع كن
أنحدر على الأسفل و كانت الحياة تهرب مني , و ها أنذا و قد انتهى
كل شي ''
وفي نهاية
دراماتيكية للقصة و لحياة إنسان كان يظنها حياة قاض يدخل في نفق الموت الذي سنلجه
جميعنا بعد تخبط في كيس أسود ينقذف فيه
انقذافا مما عمق عذاباته لكنه لا يسقط ثم دفعته قوة و سقط إلى القاع .. حتى التمع أمامه شيء كالنور فاكتشف ان حياته لم تكن كما كان ينبغي ان
تكون . و كانت آخر كلمة يتلفظ بها '' إني أشفق عليكم '' .... ! فإذا به في
عالم ملكوتي مزهر و يفيض كرما و محبة : '' ما أحسن ذلك و ما أبسطه , أين الألم ,
أين الموت '' لقد مات الموت .
تلكم هي أطوار حياة قاض عالج قضايا كل الناس اعدا قضيته
أما عن تولستوي ،صاحب القصة، فإني أراه ماثلا أمام
محاكمة سؤال الحتمية و الاختيار الحر فماذا لو كان بقصته هذه يواسي نفسه و يبرر
واقع حاله الطبقي ، فهل تراه ثابتا على
رؤيته الانطولوجية ذاتها لو نشأ في بيئة
نبيلة ..