lundi 2 octobre 2017

موت إيفان إيليتش لليون تولستوي : مقاربة غير نقدية

إذا ما نحن رُمنا وصمَ كتابات ''ليون تولستوي'' بأحد النعوت ، ملتمسين أدناها إلى التعبير عن كنهها ،  لن نتردد كثيرا في اختيار صفة الإحراج ؛  إحراج انطوائي لا انبساطي بلغة كارل غوستاف يونغ ، فهو ذاتيّ المبعث و المحل ّ، ذلك أن مطروح من قبل الذات ، منصبّ على الذات

و هوأمر بدهي لمن يجد نفسه في رحاب كلمات تخز الضمير و تشعر القارئ بخسته  أو على الأقل إذا أبى إلا أن يحصن ذاته عن الخضوع لحقيقة التفاهة ، خسة العالم المحيط به ، الذي تعسّف حين عدّه الإطار الأوحد للوجود بما هو وجود ، ''الديزاين'' بالمفهوم الهايديغيري إن جاز التوصيف .

و كيف لا تريدها محرجة و قد اتخذت من الحياة على عمومها مناطا لها , فتولوستوي يصطحبك معه إلى تأمل غائي تيليولوجي  للوجود مسلطا أضواء الإنكار والاستهجان على ما ساد من قيم بديلة جماعها الإيغو ، تجلياتها عيش الدَّور ، الوهم ، التنافس , التكاثر , الحسد , اختزال الحقيقة في الصورة على حساب الجوهر ، الاعتداد بالجاه كمحدد لقيمة الإنسان ، و المكانة كمعيار للترقي الاجتماعي  التي تؤثر في وزن الشخصية الإنسانية في مرآة ذاتها و في مرائي غيرها من المتردين في ذات الفخّ أيما تأثير .  

و لعل إطلالة عَجلى على حيثيات القصة تكون كفيلة باستجلاء ملامح الصبغة الإحراجية التي تثيرها ؛ ف''إيفان'' وُلد لعائلة من الطبقة الوسطى التي تسعى لأن تنتسب إلى النبلاء ، أو ربما تظن نفسها من النبلاء لولا عوزها لبعض الخصائص التي تفصلها عن تبوء رتبة النبيل ,  قد درس في كلية الحقوق ليتخرج منها برتبة مشرفة ، مما فتح أمامه أبواب الانخراط في الحياة المهنية بسلمها التراتبي على مصاريعها , و منها أنْ وَلي مناصب شتى ما يكاد يضع ساقه اليسرى على كرسيها حتى يرنو إلى ما هو أرقى منها و تصبو نفسه إلى المزيد  .. لا سيما و هو يحنق من تقلّد غيره لهذه المكانة و لا يرى ما يعوزه حتى يقل شأنا عن رئيسه ..

من هنا ترتسم ملامح العمى بلغة جوزيه ساراماغو في رائعته العالمية ''العمى'' و بعبارة جورج هربرت ويلز في ''بلد العميان'' و بلغة القرآن الطافح بعبارات رمزية تستهدف العمى و الظلمات كمقابل للبصيرة و النور (الأنعام 104 ، الفرقان 73 ، الروم 53 ) . و يعد نسيان الذات داخل المنظومة الاجتماعية التي أطلقت عليها ''حنا ارندت'' عبارة ''السيستام'' ، من أبرز تجليات هذا العمى بما هو سيادة ذات خيالية مزيفة و وهمية تحجب الذات الحقيقية بحُجب حياة زائفة و مخادعة تقوم على عيش الدور ، ارتقاء الشكل و الصورة إلى مُصاف المحددات الكبرى للهوية الشخصية على حساب الجوهر و الماهية  .

هنا تنتصب نتيجة السقوط في هذا الشراك ؛ إهدار أثمن فرصة لا في الحياة ، إنما في الوجود ألا وهي  فرصة الحياة ذاتها . ذلك أنها لا تتكرر أبدا ، هنالك نفقه معنى مقولة جون بول سارتر '' عرفنا كل شيء في الحياة ، إلا كيف نعيشها ''

و لأن قصة تولستوي تتخذ من الموت موضوعة رئيسة لها ، دون إهمال التعريض بالنمط الاجتماعي السائد في بيئة هذا الأديب العالمي بما في ذلك تعاطي المحيط العائلي و المهني للهالك مع هذه الحادثة سنسلط أضواء الدراسة على هذين المحورين تياعا .

ما الموت ؟ و ماهي أوجه التمثل الواهم له ؟

هذا السؤال الذي أجدني مضطرا لطرحه كمدخل لا فكاك منه منهجيا للطرح النقدي لهذا العمل البديع ، لا يقل إحراجا عن أعمال تولستوي نفسها ، لكنه إحراج متأت من غفلتنا المتوارثة عن طرح سؤال الماهية (ما؟) لدرجة أن أمست الإجابة بدَهية و مبتذلة من فرط الاجترار الجمعي لمفاهيم الموت و الحياة متجسدة في سرديات قوامها كليشيهات تمجد الحياة بمعناها السائد مقابل تأثيم الموت بمعناه السائد أيضا .

و قد ألقت هذه السرديات بظلالها على التصور الجماعي و التمثل الفردي  لهذه المفاهيم  التي عانت الإِلفة  لدرجة نبذ من تسول له نفسه إعادة الطرح إن لم يُرمَ بالجنون ، و صارت الحياة مختزلة في نبض القلب ، و أضحى الموت عدما محضا خليق بأن نتهيّبه و نسلك كل السبل الممكنة بغية التفصي منه ، و لو إلى حين ، و أمسى الدعاء المجاملاتي لمن يسمع أو يرى نعمة البنوة أو الأبوة أو الأمومة على أحدهم  : ربي  يفضلهملك: بمعنى البقاء ، و أضحى مجرد تخيل أو افتراض الموت نذير شؤم ، و فأل سوء ، فهُرع القوم إلى اتخاذ الاحتياطات ، و إلى إنفاق طائل الأموال من أجل التعافي من مرض قد يكون سببا لزيارة هادم اللذات ، في عملية  هروب إلى الأمام  علاوة على صبغتها الفاضحة تشكو عوزا ، بل فقرا  في بعد النظر ، و كأنهم لم يلحظوا بالتجربة قانون الزوال يسري على جميع الممكنات ، و كأنهم سيظفرون بما عجز عنه ''غلغامش''..

إن نظرة تأملية  بعين البصيرة ، كفيلة بحصول ارتجاج صلب المفاهيم السائدة عن الحياة و الموت مفسحة المجال لذرات الوعي البديل بتشكيل تصورات بديلة بدورها عن حقائق الموت و الحياة : سيما في ظل الوقوف على حقيقة تفاهة الحياة بمفهومها القديم القائم على الفترة التي يقضيها المرء بين يوم خروجه من رحم أمه حتى  يوم توقف دماغه ، و هو زمن في حكم الصفر إذا أنتَ قارنته بما سبق الولادة من زمن ، و هو زمن مقداره الصفر عينه إن أنت قارنته بما يلي الوفاة من زمن ، و فضلا عن هامشية الحياة بمفهومها القديم بالنسبة للزمن ، فلا مفر من حقيقة هامشية الذات بالنسبة للإنسانية ، فوفاتكَ لن تنهي العالم كما يقول ''جورج برناردشو'' ، و لن تتسبب في انهيار البورصة ، و لن تؤثر على نظام الوجود ، و موتك هو حدث عابر لا يكاد يختلف عن موت ملايير البكتيريا يوميا و هي كائنات حية لا تختلف عنك إلا بملكة الوهم التي عبر عنها ''البير كامو'' بقوله :'' إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني أبدو مختلفا عن تلك الشجرة'' ، و حتى الكائنات العاقلة فهي تشهد وفاة ثلاثة أشخاص كل ثانية ، و أذكر هنا أنني كنت أمارس قبل شهرين تأملا عابرا لكنه فاجع ، كان ذلك في قطار الأنفاق ، و ماهو بقطار أنفاق في تونس  حين كنت أقطع الطريق الفاصلة بين مقر السكنى و مؤسسة الدراسة أنظر من النافذة حتى الشرود البصري متذكرا هذه الإحصائية متأكدا أنه في اللحظة التي أموت فيها سيمر نفس القطار من نفس المكان و قد يطل أحدهم من نفس النافذة المهشمة التي منها أطلّ لكنه من المستبعد أن يكون يفكر في ما فيه أفكر..

أما تولوستوي فقد عالج هذه القضية ؛ أعني وقْع الموت لدى المحيط الاجتماعي للميت الذي أسميه العابر و يسميه الغافلون تسمية فضيعة اكتسبت الترحيب الرسمي و المؤسساتي : الهالك ، فأثارت قصته المشكل المتعلق أهمية  موت قاض نبيل ذي مكانة اجتماعية  مرموقة ؟ هنا يختلف الموقف بحسب متلقيه و لكنه لا يغير من حال الهامشية شيئا ؛ فأما الغير فيكون موقفه موقف الفرح ؛ ذلك أنه ليس هو الميت ، و الذي يبلغه الخبر يتساءل بعفوية ؛ هلل كانت له ثروة ؟ ، أما الزميل في العمل فيعبر قائلا : سأحصل على زيادة قدرها مائة و خمسين دينارا مع نفقات المنصب ، و هو الذي كان يحسد إيفان لتمتعه بصلاحية الدخول على رئيس المحكمة دون إذن ، و قد يكون موقف الزوجة أدنى إلى احترام كيان هذا المضهوم الجانب ، لكنها توقعات في غير محلها ، فهي تتذكر بسرعة مال التقاعد من الخزينة ، أما زملاء لعب الورق فيفكرون إمكانية  تعيين إخوتهم  بالدائرة أو بالمنصب ، و هم اللذين لم يحل موت زميلهم في اللعب دون استمراره ليلة الوفاة متذكرين الحالة في مستهل اللعبة مسارعين في نسيان المسألة حتى لا يتكدر مرحهم و زهوهم ...

فهذا الميت لم تكن له أهمية إلا بالنسبة إليه هو ، أما بالنسبة للغير فهو مجرد رقم  ، و هي حقيقة  على بساطتها تشكو فقر التأمل بشأنها  ''كانت قصة إيفان إيليتش من أبسط القصص و أكثرها عادية و أشدها فضاعة '' ...

و هذه الفضاعة تجعلها حَرية بإعادة الاعتبار لفردية المصير (الأنعام 94 + مريم 95 ) : فأية حياة هذه التي تنحشر بين الأزل و الأبد ، بين زمان قبلي سحيق و زمان بعدي مديد ، من هنا تَحتم الوقوف على زيف هذا المعنى المتبنى للحياة ، فما كنا نسميه حياة ليس إلا محطة من محطاتها الفسيحة ، و مربضا من مرابضها الرحبة  ، و إن شئت فقل مع باولو كويليو في ( الألف ) عربة من عربات القاطرة . و إذا نحن استعرنا المعجم الصوفي فهي خمس عربات و آية البقرة 28 تؤيد هذا القول: عربة الذرّ ، عربة ما نسميه بالحياة ، عربة البرزخ ، عربة المحشر ، و عربة الجزاء ، و هنا يلاحظ أن العربة الثانية هي أقصر العربات و هو مرد توصفها ''بالدنيا'' ، و مقابلها الآخرة و هي التي سماها القرآن الحياة (الفجر 24 ) . فتبين كيف حصلت عملية تحويل وجهة دلالية لمفهوم الحياة . و إذا كان قد بقي في نفسك شكّ مما أقدم كطرح  فتأمل في وضعك لما كنتَ جنينا في رحم أمك و هَبْ أنك تتوفر على وعي ما ، هل كنتَ ستتخيل بعدا آخر لحياتك ؟ قطعا لا ، قطعا و ألف قطع . ألن يذهبن في ظنك أن الحياة مختزلة في الرحم كإطار أوحد لها و ليس بعده إلا الموت بما هو عدم محض ؟ لكنك في لحظة الولادة ستجدك معانقا لبعد آخر من أبعاد الوجود ، له قوانينه المختلفة ، بل ستسميه الحياة منكرا تسنيتتها على المرحلة السابقة التي تعفسفت في تجريدها من صفة الحياة لدرجة اقصا فترتها من عمرك .. فما اذي لا يمنع تفتق أبعاد أخرى عند لحظة الموت ، فتأمَّل و لا تقع في الخذلان كما يقول ابن عربي . و بمناسبة ذكر ابن عربي يمكن لهذا المعنى إذا ما نحن استكنهناه إن يبرر لنا لحظات فارقة في تاريخ الإنسانية من ذلك رقصة الحلاج عند صلبه و الأبياتالعميقة المعنى الذي خلفها السهروردي المقتول على شاهد قبره ، كذلك ما تركه الرومي ،  و الطريقة السلسة و المبسطة التي شرب بها سقراط سم الشوكران ، سقراط الذي لا يرى الموت أكثر من نوم بلا أحلام أو هجرة الروح إلى بارئها . إنها لحظات تفيض بسعادة انفصال الروح عن الجسد فهو تصالح للروح مع نفسها كما كان يقول هيغل . و ليست محاطة بأجواء النحيب القاتمة كما استقر في عادات الغافلين المحتجَبين الذين يعتبرون الموت '' مناسبة أليمة '' . و هم في الحقيقة محقون فهي أليمة لكنها على من اعتبرها بوابة للفناء و العدم .

تأمل كيف أن الذي نسميه نحن بالموت فهو عملية ''إسكال'' وفق معجم الملاحة الجوية : عملية عبور من محطة إلى اخرى في صرح الوجود اللامتناهي ، بيد أنه من التعامي إنكار مشروعية خوفنا منه ، لكن نخاف منه كمجهول لا كعدم  . و حق لنا ذلك فالناس لما يجهلون أعداء كما قال علي بن أبي طالب ، و الناس لما يجهلون مرتابون ، أما ترى أن التحفظ و الاحتراز يبدوان على كل من التقى بغريب ، كذلك نحن نهاب الموت لأنه مجهول لا لأنه عدم  و لو أننا خبَرنا الموت لما وجدناه على تلك الحال التي تخيلنا ، سرداب مظلم وبئر ظلماء بلا قاع ، و دليل ذلك تلك الروايات الصادرة عن عشرات الألوف من الخائضين لتجربة الاقتراب من الموت ؛ أصروا جميعهم على عيشهم لحب غامر و احتضانهم من قبل بيئة مقرِّبة غير منفِّرة ؛ و بالفعل ( يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) هكذا حدَّثت سورة الفجر

وفق هذه المراجعة على صعيد التصورات ، يتحتم إعادة نظر في مفهوم الحي و مفهوم الميت .  فرب حي ميت و رب ميت حي  أو كما قال سميح القاسم ذان أمسية شعرية : أيها الموتى بلا موت !  سئمت الحياة بلا حياة ، و العجيب أن هذا المفهوم الثوري الانقلابي يتبناه القرآن كما يتجلى في الآية الواحدة و العشرين من سورة النحل في وصفه لشريحة منا معشر الهوموسابيانز :  أحياء غير أموات .. .  و إذا ما كان الأحياء أموات ، كيف تكون ملامح المجتمع الذي فيه يعيشون ، ذلكمم هو ما كرست له قصة تولوستوي حيزا مضمونيا هاما .

الميت : الملامح الاجتماعية لشخصية إيفان
لعلنا لا نبالغ ، بل نحن لا نبالغ إذا اعتبرنا أن المركز الاجتماعي هي القضية المحورية المطروقة صلب القصة ، و ليس ذلك بغريب على كتابات تولستوي الذي شهد شأنه في ذلك شأن عَظُم الأدباء الروس الثنائية الطبقية و ما انجر عنها من استتباعات واقعية .
على أن تولستوي و إذ يعالج الأسقام الاجتماعية في محيطه لم يكن يصدر عن أخيلة هلامية إنما كان يتخذ من صميم الواقع المعيش منطلَقا محفزا لإبداعه الأسود ، و نبراسا قاتما يستظل بظله الأقلّ قتامة عسى أن تخفف الكتابة عموما و الأدب خصوصا من وطأة الصدمة التي يتردى فيها الأديب.
و لما كان المجتمع الذي يخضعه تولتستوي لتشريخا أدبيّ الطابع يتسم بسيادة الصفات و المكانات و المراكز كمعايير محددة حصريا للقيمة الإنسانية ليس في محيطها الاجتماعي فقط بل في مرآتها الذاتية ايضا و أعني بشيوع هذه القيم ، أن تكون تُختزل الذات في الصفات.  فحينما يُشرع في دفن القاضي مثلا هل يقال سندفن القاضي أم سندفن الميت ؟؟

و علاوة عن هيمنة حياة الصفات و الزوائد و اللواحق (الدكتور فلان ، رئيس الهيكل الكذائي فلان .. ) يضع تولستوي ضربا آخر من ضروب الأمراض المجتمعية تحت مطرقته الناقدة ، و هو مرض البيروقراطية الإدارية، يتجلى ذلك عندما يخلق شخصية مستشار شخصي يصفه بأنه العضو الذي لا حاجة إليه في عديد الإدارات التي لا حاجة إليها . كذلك لم يغفل التدخلات الدموية في الميادين الإدارية التي لا تكون إلا على حساب معيار الكفاءة و تكافؤ الفرص المنضبطين لمبدأ المساواة ، فبطلنا عُين في المحكمة بتدخل من والده . و هي أعراض تفهم في سياق حالة سوسيولوجية  تتسم بالهيمنة و السلطة فمجتمع اليوم و هو مجتمع تولستوي غداة الثورة الصناعية بمثابة سيستام يتألف من مؤسسات متراتبة يسلط الرئيس قهره على المرؤوس ، يسلط العمدة جوره على فلاح فقير من خلال استيلائه على أرضه , ثم يستولي المعتمد على الأرض التي أصبحت على ملكية العمدة ، ثم يتعرض المعتمد إلى الظلم من قبل  ''شاوش'' الولاية  الذي يتعرض بدوره إلى غطرسة كاهية مدير ديوان بالوزارة ، الذي لا يقدر على صد  تحيل عصابة متنفذة داخل البلاد ''كالطرابلسية'' في تونس ، التي لا تقدر بدورها على حرمان المافيات العالمية من حصتها .. و هكذا فوق كل ذي سلطة متسلط و فوق كل ذي قهر قاهر فوق عباده .. كذلكم كان إيفان مُغرما بعمله و مبتهجا بقدرته على الزج بالناس في السجن .. و كذلكم كان زملاءه يكنون له الغيرة و الأحساد على منزلته و خاصة و صلاحيته في الدخول على رئيس المحكمة بلا إذن خلافا لوضعياتهم .

و من جملة المؤسسات التي يتركب منها السيستام  نجد مؤسسة الطبيب ؛ فقد أصيب إيفان بمرض غريب و لما زار الطبيب فوجئ ''بالأسئلة الاعتيادية التي تتطلب أجوبة اعتيادية''  مبتذلة و معروفة ولا جدوى منها فيمارس عليه الطبيب الغافل بدوره سلطته من خلال تحدثه بلغة معقدة تقوم أعراض و أمراض و افتراضات و حلول ، بحدة و صرامة .  أما إيفان فكل ما يعنيه هو سؤال وحيد هل المرض خطير أم لا , و لما سأله إياه كان رد الطبيب أنْ ''رماه من تحت نظارته بنظرة قاسية و كأنه يقول له : أيها المتهم إذا لم تلتزم حدود الأسئلة التي نطرحها عليك سوف نضطر إلى إخراجك من القاعة '' .  و كأنه يقول له نحن نعرف تماما ماذا نفعل ، وما  عليكم إلا طاعتنا .. ذات الطاعة التي كان يفرضها إيفان في الجلسة ، فكما أنه كان يمثل ملهاة أمام المتهمين كان الطبيب هنا يمثلها أمامه و هكذا بالنسبة لشتى مفاصل السيستام . و لعل سلطة الطبيب هذه ، مما ألهم ميشال فوكو لإنجاز عمله الانتوبولجي الهام ''مولد العيادة'' .

كذلك من بين القضايا المستدعاة ، مسألة لا تقل خطورة عن سابقاتها و هي مساهمة المجموعة في تحديد المعايير الأخلاقية حيث تسحيل الفضيلة ما يتواضع عليها الأغلبية على أنها فضيلة لا ماهي فضيلة بحكم مقوماتها و خاصياتها . و هو سلوك تصدى له علماء النفس و أطلقوا عليه تسمية ''عمى التتكيّف '' أو عمى التأقلم  و إسقاط ذلك على إيفان إيليتش يكمن في أنه لما كان في كلية الحقوق ارتكب أعمالا  دنيئة , و كان يشمئز منها حتى وهو يقوم بها . لكن عندما شاهد فيما بعد أن أناسا في المراكز العليا يرتكبون الأعمال نفسها و لا يعدونها سيئة نسيها تماما و لم تعد ذكراها تعذبه  . '' و كان له في المقاطعة مجونات و علاقات غرامية لكن كما يقول المثل الفرنسي يجب أن نغفر للشباب طيشهم  خصوصا و كانت هذه  الأشياء تعمل  بثياب جديدة ,  وصحبة حسنة و خصوصا بموافقة الأشخاص الرفيعي المكانة اللذين يحرص إيفان على استدعاءهم و ذلك مبلغ سعادته ، و تلك سعادة الغافلين ....

أما عن حياة إيفان الخاصة فهي محكومة بالطابع الميكانيكي و سيادة الشكليات و البروتوكولات و الإيتيكات عليها من حيث هي مقتضى من مقتضيات غفلته مقابل فتور المشاعر . فقد حرص على أن يؤثث منزله بأثاث عتيق يحاكي ذلك الذي يملكه النبلاء و حرص على مداعبة زوجته و المرح معها.. لكنه  ما لبث أن تغير الوضع  بعد ملله و مطالبتها إياه بالعناية و الاهتمام بها نتيجة قضائه لأوقاته مع أصداقته في لعب الورق ،  و غيرتها المبالغ فيها . مما ولد مشاعر الكره الدفين المغلف بالمجاملات  بينهما . فبدأ يتذمر من الطعام و من كل شيء ...

و مما عمق تناقضات علاقته الزوجية دخوله في المرض الخطير تصاعدي الخطورة ، وسط تعاط لا مبال محاط بالكذب و المجاملات من قبل زوجته و أبناءه اللذين لم يحل مرض موت والدهم دون التحاقهم بقاعات السينما ، ذلكم هو السبب الذي تمنى من أجله الموت إضافة إلى أوجاع المرض المؤلمة . ثم هاهو يشعر بالموت بل  يراه داهما ، رأى نفسه على حافة الهاوية ، أفزعه الموت , تسائل أسئلة انطولوجية من قبيل ماالذي حدث ، ماذا كان , و ما يكون و ما سيكون بعد أن أموت ؟ إلى أين أنا ذاهب , إلى العدم ؟ سمع أصوات العائلة و هم يستقبلون العُوَّد . اغتاظ منهم على عدم اكتراثهم بل تضرمهم منه . لكنه احتقرهم لأنهم هم أيضا لا فكاك لهم من الموت و لا مفر من نفس المصير . '' يا للحمقى يا للبلهى ''

ثم هاهي زوجته تعود متأخرة إلى المنزل بعد قضائها لحفلة مع الأبناء , فتسأله  عن حجم الألم الذي ألمّ به, فيكون جوابه أن يسألها عن جدوى السؤال و جدوى الجواب , نصحته بالأفيون الذي تناوله فاستغرق في النوم . و لما أفاق استغرق في البكاء كالطفل ، انتحب على الوحدة و قسوة الناس و قسوة الله و سأل سؤال العلة , و لم ينتظر الجواب بل كان يبكي لأن سؤال العلة لا جواب له ...

و بينا هو في غمرات نهاية المرض و بداية الموت سأله صوت باطني :  إلام تحتاج ؟ فقال إلى أن أحيا ، فردّ عليه ، كيف ؟ فأجاب ،  ''كما كنت أحيا من قبل'' فسأله ثانية ، '' و أي حياة كنت تحيا '' هنالك استرجع ذكرياته فإذا به يرى بأم عينيه ما كان يعتبره سعادة في الحياة إنما هي أكذوبة الأكاذيب و مزيد في الفراغ ،  ماعدا سنوات الطفولة '' كنت كأني أهبط سفحا و أنا أظن أني أصعد بل بالفعل في نظر الرأي العام كنت أصعد لكني في الواقع كن أنحدر  على الأسفل  و كانت الحياة تهرب مني , و ها أنذا و قد انتهى كل شي ''

وفي نهاية دراماتيكية للقصة و لحياة إنسان كان يظنها حياة قاض يدخل في نفق الموت الذي سنلجه جميعنا بعد تخبط في كيس أسود  ينقذف فيه انقذافا مما عمق عذاباته لكنه لا يسقط ثم دفعته قوة و سقط إلى القاع ..  حتى التمع أمامه شيء  كالنور فاكتشف ان حياته لم تكن كما كان ينبغي ان تكون . و كانت آخر كلمة يتلفظ بها '' إني أشفق عليكم '' .... ! فإذا به في عالم ملكوتي مزهر و يفيض كرما و محبة : '' ما أحسن ذلك و ما أبسطه , أين الألم , أين الموت '' لقد مات الموت  .


تلكم هي أطوار حياة قاض عالج قضايا كل الناس اعدا قضيته  

أما عن تولستوي ،صاحب القصة، فإني أراه ماثلا أمام محاكمة سؤال الحتمية و الاختيار الحر فماذا لو كان بقصته هذه يواسي نفسه و يبرر واقع حاله الطبقي  ، فهل تراه ثابتا على رؤيته الانطولوجية  ذاتها لو نشأ في بيئة نبيلة ..

vendredi 22 septembre 2017

حديث الجمعة ؛ في علل القومنة التي استهدفت الإسلام

 قد يتبادر إلى ذهن الباحث في أسباب التمثل « الجِهادي » للإسلام أن مردّ التآويل الضيقة لنصوصه لا يتجاوز قابليتها الموضوعية لتحمل و حمل الاتجاه التفسيري الإقليمي حيث ينتصب الإسلام في مقابل اليهودية و  » النصرانية  » و هو تصور ضيق أنكره علماء من أمثال الشيخ محمد بن عبد الله دراز القائل بعالمية الإسلام (محمد بن عبد الله دراز ، نظرات في الإسلام ) تبعه في ذلك أبو القاسم حاج حمد (أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية ) و طه جابر العلواني (الخصوصية و العالمية في الفكر الإسلامي المعاصر ) ، و يسوى الإسلام بالعروبة ، فيصطبغ ببعاداتها و تقاليدها و هو ما حذر منه القرآن عند تصديه لضروب شتى من الممارسات الجاهلية و تحذيره منها ، مسبعدين بذلك التأثير الممكن للعامل الوراثي المجموعي الذي يسميه كارل غوستاف يونغ ( اللاوعي الجمعي ) .
لكن المسألة في رأيي أبعد عن الإسلام و أدنى إلى العروبة التي تمثل خمس الإسلام من حيث عدد المعتنقين ، و إلا بم تفسر اقتصار سيادة هذا الفهم كما يتجلى في ترجماته الواقعية على الدائرة العربية ، و خاصة الشرقية منها ، و من هنا يتحتم علينا ،إن نحن رمنا الفهم ، إعادة الاعتبار إلى عامل المخيال الجمعي العربي أولا ، و إلى العامل المكاني عوضا عن الزماني ثانيا ، و أرى أن يوسف زيدان في كتابه اللاهوت العربي نجح في استجلاء ملامح تأثير المكان ( الهلال الخصيب ) في بلور الرؤى المختزلة للدين في الإقليم حيث يتلبس بعادات الإقليم التي تكون هي المنطلق و النتيجة المنتظرة في عملية تفسير النص و إن اقتضى الأمر ليّ عنقه و تحويل وجهته الدلالية . ثم كيف تفسّر ظاهرة اتساب كبار المصلحين الإسلاميين من أمثال الأفغاني و عبده و الدهلوي و ابن عاشور إلى بيئة غير البيئة العربية .
ومن استتباعات هذا التمثل الانكفائي الذي حشر المسلمين في الزاوية أن الفقه الإسلامي قد تم ابتناؤه على مبادئ أصولية لاواعية كالعرض و الشرف و المروؤة و النخوة الشهامة كما أبرز ذلك محمد شحرور ملاحظا غيابها في القرآن .
غير أنه ما كان للرسالة الإسلامية العبر-كونية و الموجهة للعالمين أن تستعصي على هضم كبار الصحابة على غرار الإمام علي الذي انتبه في نهج البلاغة إلى المصدر الشيطاني لهذه الباراديغمات ، و حسبك قوله في الخُطبة القاصعة محذرا من الشيطان و مكائده .  » فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ ( ……) فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَأَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ « 

samedi 16 septembre 2017

زواج المسلمة بغير المسلم جائز شرعا مشروع قانونا : دراسة دينو-قانونية



كثر اللغط - وما أكثر اللغط في الهنا التونسي و الآن المابعد ثوري -  حول مسألة أسالت من الحبر و أطلقت من الألسن ما حتم تقديم هذه الدراسة الجامعة بين الإطارين الديني و القانوني عساها تفصل المقال ببيان ما بين الشريعة و القانون من اتصال، ألا و هي مسألة زواج المسلمة بغير المسلم
ما حكم هذا الزواج ؟ هكذا ينطرح السؤال الديني ؟ ما مآل هذا الزواج ؟ كذا يُطرح السؤال القانوني

المقاربة الدينية للمسألة
منذ قرون خلت و إلى اليوم شهد العقل الفقهي الإسلامي (هشام البنا ، قضية تجديد الفقه الإسلامي ) حالة من العطالة عجلت بسباته العميق الذي تلازم مع داء التقهقر الحضاري الذي ألم بالأمة الإسلامية منذ القرن الحادي عشر ميلادي، كان من أهم تجلياته على المستوى الفقهي أن ضُيّق من مجال الاجتهاد و أحيط بهرمية إكليروسية تحتم استبعاد المغضوب عليهم و الضالين –وما أكثرهم حسب الأدبيات المشيخية - من ممارسة صلاحية الاجتهاد و احتكاره من المرضي عليهم سلطانيا و - ما اقلّهم ، حتى أغلق بابه نهائيا و تم فقؤ أعين النظر في الواقع المحيط بالنوازل  و لا بديل وجدناه لهذا الداء غير الاقتصار على نقل اجتهادات ''الجهابذة'' النَّحارير '' و شرحها و التنكيت على حواشيها ...
و لم يغير عصر ما سمي بالنهضة الإسلامية من هذا الحل إلا النزر اليسير ، اللهم إشراقة الأفغاني و تلميذه عبده قبل أن يحول وجهتيهما محمد رشيد رضا ، و آية ذلك ما ردّ به محمد الطاهر بن عاشور على سؤال الطاهر الحداد إزاء لباس المرأة الذي يختلف في نظر شيخ الزيتونة حسب نوع المرأة  بين الحُرة و الأمَة في الوقت الذي طوت ، أو توهمنا أنها طوت فيه حضارة الإنسان مؤسسة الرق ، (امرؤتنا بين الشريعة و المجتمع ، الطاهر الحداد ) و لاحظْ أننا قلنا نوع المرأة لا وضعها نظرا لأن الأنظمة القانونية  للحرة و الأمة صلب المدونة الفقهية تنطوي على اختلاف صارخ يلقي بضلاله على كل المستويات
و إذا ما بحثنا عن موقف الشرع من هذه المسألة وجدناها خلافية كعَظُم قضايا الفقه الإسلامي ، و يهمنا هنا إيراد بعض الملاحظات المنهجية الهامة
1-              في تعريف المسلم و المسلمة و مقابليهما :
اعلم –أعزني الله و إياك -  أن معظم المتعاطين مع هذه الموضوعة قد تردوا في خطأ فادح مؤثر على مجمل الطرح باعتبار ضرورة  التماسك في الأفكار  المتعالقة و المتراصفة ، ، و تعزى هذه الهفوة المنهجية إلى تغافلهم عن تحديد مقصودهم من عبارة المسلم .  فما بني على باطل فهو باطل ، قاعدة أصولية لا مراء فيها ، تجد لها مصداقا في قضية الحال ، ذلك أن المقدمة الصغرى (زواج المسلمة بغير المسلم باطل) صحيحة و بذلك يوحي وجه الاستدلال بالصحة ، لكن المقدمة الكبرى تنطوي على مغالطة أو خطأ و هو ما نراه متوفرا في صورة الحال ، فالمتعاطين مع القضية انبروا ليفصلوا المسألة منطلقين من مسلمة ظنوها بدهية و ماهي ببدهية و مفادها أن المسلم هو من يستجيب للأركان الخمسة للإسلام ، غير  أنك إذا أنت أمعنت النظر تتبين أن مرادهم بالمسلم هو ذلك المنتسب إلى حضيرة الإسلام على نحو من القدر الوراثي الذي لا دخل لإرادة الإنسان في تحققه .
و على هذا النحو فإن الأم تيريزا ليست بمسلمة ، بل هي كافرة في قاموس أساتذة من جامع الزيتونة (مختار الجبالبي نموذجا) أما أبو بكر البغدادي فهو مسلم من أهل القبلة ، فهذه إذن تجليات لحالة سريالية أو قريبة من السريالية أفرزها تاريخ مديد من الركود الفقهي و الجمود الحضاري (مضطر للجنوح إلى الاحكام القيميةالمعيارية Les jugements de valeurs لضروة الدلالة على المعنى ) الذي أصاب المنطقة و لا أقول الأمة باعتبار الطابع الفضفاض لمفمهوم الأخيرة ، و أعني بالمنطقة شبه جزيرة العرب مضافة إلى الهلال الخصيب ففي الأولى نشأ الإسلام و في الثانية ترعرع . و هي علة اصطباغه إلى اليوم بخصيصتين لا زال يئن من أوزارهما ، الخصيصة الأولى هي الجاهلية (أفحكم الجاهلية يبغون ) و الثانية هي الإرث اللاهوتي الكريستولوجي المسيحي ، فالأولى ورثها من جزيرة العرب التي لا تعرف الحضارة ، إلا الاقتتال الثأري و الافتناء القبلي . (الاسثتناء في إلا هنا منقطع لا متصل) ، أما الثانية فقد حمل مشعلها عند ابتداء توسعه نيابة عن المسيحية التي اخذت في الانحدار مع تنامي الفتوحات .
و لا يذهبنّ في اعتقادك أننا بصدد مقدمة تاريخية بعيدة عن صميم الموضوع ، فلا فهم له إلا بعد التبصر في جوانبه كافة . هذا من جهة أخرى
و من جهة ثالثة و هنا قد لا يكفي التفكير المنطقي الأداتي الآلي الرامي إلى الإقناع لحصول الاتفاق في الآراء ، فإذا أنت تأملت القرآن (النبأ العظيم ) و فتحت لأسراره بصيرتَك ستجده لا يأبه للقول و لا يعتد بالشكل و لا يعمل بالا للصورة بل لا يرى في الأسماء (إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) و يعتبر القلب مناط التكليف (كسبت قلوبكم ، عقدتم الأيمان ، ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب .. )
و وجه إسقاط هذا المنزع القرآني صوب المعنى على حساب المبنى ، على موضوعنا يكمن في فساد المعادلة بين الخلاص من حيث هو غاية الإنسان من ناحية  و بين الإسلام وجودا و عدما من ناحية أخرى ، ذلك أن المحقق للخلاص كما يتحصحص من القراءة الجملية أو الوحدوية البنائية بلغة طه جابر العلواني (العلواني ، الوحدة البنائية في القرآن ) أي قراءته كوحدة منسجمة بعيدا عن القراءة الاجتزائية العظينية التي تؤمن ببعض الكتاب و تكفر ببعض ، أن محقق الخلاص ليس أن تكون مسلما فكيف بمن يكون مسلما وراثة و تقليدا إنما هو مختزل في أمرين ،  إيمان مع عمل صالح  فإذا توفرا في غير مسلم فهو برحمة الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ،  كذا  إذا لم يتوفرا  في مسلم فهو في مقام أدنى
و إذا كان في نفسك ريب مما أقول فاهجر كسلك الفكري و اقرأ الآيات الآتية من القرآن (البقرة111 ، البقرة 112 ، البقرة  113 ، البقرة 135، البقرة  النساء 123 ، التوبة 30)140 ، البقرة 62 ، المائدة 69  ،النساء 123 المائدة 18 ، التوبة 30) .
فتحديد المسلم كما رأينا ليس بالأمر البدَهي المفروغ منه ، و هو ما ينسف الفهم السائد لثنائية المسلم و نظيره سواء كان الكافر أم المشرك
هذا عن المسلم ، أما بالنسبة للمشرك و هو ما يهمنا في الموضوع و ليس غير المسلم كما يشيع في السجالات العامة و الخاصة التي تستهدف المسألة لأن الآية سند المنع (البقرة221) تتناول المشركين لا غير المسلمين و شتان بينهما
و التعريف الشرعي للمشرك كما تواضع على ذلك عدد من الأصوليين و المفسرين غير يسير هو حصرا من يدين بتعدد الآلهة (ابن عاشور ، التحرير و التنوير )، وقد ذهب بعض من المتأولين إلى اعتبار الكتابيين مشركين و منهم مالك بن أنس الإصبحي  الذي قال تلميذه ابن القاسم و هل ثمة شرك أعظم ممن جعل لله صاحبة وولدا في إشارة منه لآيتي (و قالت اليهود عزير + إن الله هو المسيح بن مريم  )
و هي أقوال ينبغي وضعها في سياقها التاريخي ، فنحن نعلم أن المدونة الفقهية المالكية تقوم على تقسيم الكرة الأرضية قاطبة إلى دار حرب و دار سلم ، مع ما ينجر عن ذلك من اختلاف كلي  في الاتجاهات التشريعية في كل مستوياتها خاصة المعاملاتية  متخذين لهم من آيات تذكر أفعالا للشرك في ذيل الحديث عن الكتابيين سندا لهم و أهمها آية  (سبحان الله عما يشركون ، التوبة 31)  في مخالفة صارخة للروح القرآنية التي تميز بينهما أيما تمييز  بل تميز بين الكتابيين أنفسهم (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة .. )
لذلك تصدى لهم طائفة من العلماء الأفذاذ من أمثال الشيخ جمال الدين القاسمي و الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور و الإمام  محمد عبده الأول في محاسن التأويل و الثاني التحرير و التنوير و الثاني في المنار ليؤكدوا أن الشرك صفة لا يعتد بها إلا  إذا جرى عليها الموصوف و أن الوصف لا يعني تحقق الفعل . بل و يذهب  شيخ  الأزهر السابق  سيد طنططاوي في التفسير الوسيط إلى أبعد من ذلك لما عزا من يقحم الكتابيين ضمن المشركين إلى العصبية : '' و ثمة من أدخلوا فيه (الشرك) اليهود و النصارى و في هذا عصبية مذهبية مجافية لمنطق القرآن القسيط ''
فإذا كانت مفاهيم المسلم و المشرك تحمل من المرونة ما يحتم تجاوز المقولات الثابتة عن أحكامهما ، فإن التصدي إلى الأدلة التي ارتكز عليها القوم يمسي أمرا محتَّما .
2) أدلة القائلين بعدم جواز  زواج المسلمة بغير المسلم
اعلم أن دليل المتمسكين بعدم زواج المسلمة بغير المسلم يكمن أساسا (إذا استبعدنا آية الممتحنة 10) في الآية الواحدة و العشرين بعد المائتين من سورة البقرة  ( الحبيب بن طاهر بوصرصار ، الفقه المالكي و أدلته  3-229)، التي تمنع أمرين ، أولاهما يتمثل التزوّج بالمشركات و من هنا جاءت عبارة تاء الفعل المضارع في لفظة تنكحوا مفتوحة ، و ثانيهما يكمن في تزويج المشركين و من هنا جاءت التاء حاملة لعلامة الرفع . و الحقيقة أن علامتي الفتح و الضم تؤشران على معطى فقهي سائد يراعي حال البيئة العربية زمن التنزيل و المتثمل في أن المرأة لا تزوج نفسها بالاستقلال ، بل لوليها عليها حقّ الجبر . أما اليوم و حتى الفقه الإسلامي فقد تطور في اتجاه الحدّ من حق الجبر و إقرار حرية المرأة في زواجها و لو دون موافقة وليها شريطة موافقة القاضي ، و هو موقف يستمد مشروعيته من الإقرا بأهلية المرأة .
و من ناحية ثانية فإن هؤلاء يرون في التحريم حكما لهذا الزواج ، فاقدين بتصورهم هذا لأي دليل شرعي ينهض على تأييد دعواهم ، ملقين بظهورهم لمقولة دعوى التحريم دعوى عظيمة (علي عبد الرازق ، الإسلام و أصول الحكم ) و للقاعدة القائلة بأن أقصى الأحكام يقتضي توفر أقصلى الحجج أي أوضحها و أظهرها . و نحن نعلم أنه و بمقتضى مبدأ البراءة الأصلية فإن الأصل في الأشياء الإباحة و أن النهي في القرآن لا يعني التحريم ضرورة ، فقد يعني الكراهية ، و هنا يكون زواج المسلمة بغير المسلم فاقدا للمعاقبة على فعله ، إنما غاية الأمر أن يثاب على تركه و هو حكم الكراهية . و فرق بين أن لا يعاقب على فعله بل لا يأثم على فعله و بين أن فعله يستوجب الويل و الثبور و العذاب الأليم كما يروّج هؤلاء .
و من جهة ثالثة فإنه من المهم البحث في أسباب نزول هذه الآية التي روي فيها سببين مختلفين السبب الأول رواه  جلال الدين السيوطي في كتابه أسباب النزول و هو أن مرثد بن أبي مرثد حليف بني هاشم ، أرسله الرسول إلى الطائف فوجد بها حبيبته السابقة عن دخوله الإسلام و كانت تسمى  عناق فقالت له  ويحك يا مَرثد ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام حَرَّم ما كان في الجاهلية فقالت : فتزوجني قال : حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه  .
و السبب ثاني رواه الواحدي في كتابه المعنون بذات العنوان السابق و فيه أنها نزلت في عبد الله بن ابي رواحة ،  و مهما يكن من أمر مناسبه نزولها يستحيل من التعسف التغاضي عن هذه العلة المباشرة رغم وعينا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الموروث التفسيري و الفقهي . و واضح أن خصوصية الوضع المزامن للنزول (الخيانات  ، طراوة الدعوة و حساسيتها ) أسهمت في تبلور هذه القاعدة الفقهية التي لا شيء يمنع من الإقرار بطابعها الوقتي .
و من جهة رابعة فإن الالتفات إلى السياق المحيط بالآية المذكورة يغدو غاية في الأهمية (الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن) لا سيما إذا ساهم في إزالة الغبش من الرؤية و إيضاح المعنى و العبرة منه . فالآية جاءت في معرض الحديث عن اليتامى ، (وهو ما يذكرنا بآية تعدد الزوجات النساء 3+129 +)و قد اختلف الفقهاء فيما إذا كان الآية ابتداء تشريع أو متعلق بما تقدم ، و نقل الرازي في تفسيره (التفسير الكبير ، مفاتيح الغيب ) عن أبي مسلم أن الآية متعلقة باليتامى ، فهي معطوفة على آية اليتامى  و تحث على التزوج بهن عند البلوغ كبديل عن التزوج بالمشركات (مفاتيح الغيب ص 47) و إذا نحن ذهبنا في هذا الاتجاه أمكن لنا أن نقصي من الأساس كل امرأة غير يتيمة و قادرة على التفصي من العنوسة من نطاق الآية
و هو قول نجده عند الإمام محمد عبده الذي يرجحه قائلا فمملوكة مؤمنة غير من مشركة حرة (المنار 2-350 )+ (الأساس لسعيد حوى  514) و مملوك (قن) مؤمن خير من مشرك حر و هذا على ما ذهب  إليه الجمهور 351 من الجزء الثاني من المنار ) . كما رجح ذلك مفسر عالي الطبقة وهو ابن عطية الذي يقول (المؤمنة المملوكة خير من المشكرة و لو كانت ذات الحسب و المال ، المحرر الوجيز ص 194)
)و هكذا يتبين أن الآية جاءت لتبطل العقلية العنصرية و الطبقية التي كانت منغرسة في نفوس العرب من خلال الاعتداد بالإيمان على حساب الوضعية الطبقية (حر-عبد)
و من جهة خامسة فإن اختلاف المفسرين و الفقهاء لم يقتصر على متعلَّق الآية و مناطها، بل تعداه ليقع تخبط و اختلاف ما بعده اختلاف حول قضية شائكة و معركة ضارية و هي معركة النسخ  بين آية البقرة (223) و آية المائدة (5)التي تبيح زواج المسلم بالكتابية علما أن زواج الكتابية بالمسلم مباح أما زواج المسلمة بالكتابي مسكوت عنه مما فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ، و علة هذا الاختلاف تكمن في تربع الرجل على عرش الولاية و القوامة و السلطة و هي مراكز شهدت تخلخلا بما يحتم مراجعة الأحكام عملا بالقاعدة الأصولية : الحكم يدور مع علته وجودا و انتفاء ( أبو إسحاق الشاطبي ، الموافقات + ابن عاشور مقاصد الشريعة الإسلامية )
قد لا يعلم كثير من المتفيقهين أن عبارة النسخ شهدت تحولا دلاليا منذ القرن الأول ، ذلك أنها قبل التاريخ المذكور كان المقصود منها جميع ضروب العلاقات التأويلية الرابطة بين أجزاء القرآن من مطلق و مقيد ، خاص و عام ، مجمل و مفصل ، أما بعد التاريخ المذكور فقد أضحت الدلالة المتواضع عليها مقصورة على رفع الحكم بحكم آخر متراخ عنه ( مصطفى زيد ، النسخ في القرآن )  و هو ما لا يقبله القرآن  الذي يقول ''لا مبدل لكلماته'' ، و يقول 'ذلك الكتاب لا ريب فيه'' و يقول ''كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير'' و يقول ''لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه'' . لكنا قبلته تمذهبات العرب و عصبياتهم ففصَّلوا الناسخ و المنسوخ وفق أهوائهم ، و من ذلك مثلا اللخبطة التي أصابت الفقهاء إلى اليوم فيما يهم علاقة آية السيف (التوبة 5 ، أو 29 أو 38) بآيات السلم و الموعظة الحسنة و الإعراض عن الجاهلين العفو و الصفح و هي معان يعج بها القرآن لمن تبصّر .
و ما شهده موضوع الجهاد لم يشذ عنه موضوع زواج المسلمة بغير المسلم . فقد ذهب فريق إلى أن آية المائدة منسوخة بآية البقرة و هو قول مرجوح في نظرنا لشبه الإجماع الحاصل على أن المائدة آخر ما نزل من القرآن ، كيف لا وهي السورة التي تضم آية (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي .. ) مما يجعلنا نميل إلى القول الذي يعتبر أن آية المائدة ناسخة لآية البقرة وهو قول الزمخشري مثلا (الكشّاف 129) ، مع تحفظنا على عبارة النسخ التي علينا استعمالها في معناها السائد قبل القرن الأول ، و عليه فإن العلاقة بين الآيتين علاقة خصوص و عموم ، فإذا منع القرآن زواج العربية المسلمة اليتيمة بالمشرك لمقاصد حينية ، فإنه قد أباح بعد انتفاء علة المنع باتساع الرقعة الديمغرافية للإسلام صلب الآية الخامسة من سورة المائدة مبرزا البعد الزماني المتجلي في قوله سبحانه (اليوم أحل لكم ..) . فقد تبين لك تهافت أدلتهم و تذبذبها ، فهل من حجج من شأنها تأييد إباحة زواج المسلمة بغير المسلم
3) فتوانا في الإباحة و مرتكزاتها المقاصدية .
يجدر الإشارة قبل استهلال نسج خيوط الفتوى إلى أمرين : الأول يتعلق بحجية الفتوى و الثاني يهم طبيعتها المقاصدية ، أما عن الأول فإني مستبق الإجابة عن سؤال ، من أنت حتى تفتي ؟ و ما مؤهلاتك ؟ و هل شاهدناك يوما في فضائية الرحمة حتى تتبوأ هذا المنصب العزيز ؟ أقول إن الفتوى ليست حقا بل فرض عين على كل مسلم و مسلمة ، و هو ما تقتضيه المسؤولية الشخصية (لا تزر وازرة وزر أخرى ) ( العلواني، نحو التجديد والاجتهاد، مراجعات في المنظومة المعرفية الإسلامية ) فعلى المؤمن التحلي بالشجاعة في استنباط الأحكام حتى لا يتنكر المفتي للمستفتي و يتبرأ منه ، و في هذا الصدد يمكن التأمل في هذه الآيات (البقرة 166 ، القصص 93 إبراهيم 21 ، غافر 47 )
و أما عن الثاني فإني ناقل رسالة إلى الأمة بدا لي أن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أراد تبليغها من خلال كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ، و مفادها أن كل علوم الشرع كأصول الفقه و فروعه ليست قادرة من حيث ماهيتها و طبيعتها على بيان أي حكم في أية مسألة . و وعيا منه بسنة التجدد اقترح أن يتم الاستعاضة عن الأصول بالمقاصد ، مسهبا في تفصيل نجاعة الثانية و قصور الأول . و عملا بهذه النصيحة نجد أن زواج المسلمة بغير المسلم يجافي مقاصد كثيرة عناها الشارع الحكيم من وجوه و هي :
1-                مقصد التعارف : و أساسه آية (الحجرات 13 ) فاللذين يقولون بعدم جواز هذا الزواج فهم يصدُرون عن رؤية انكفائية متقوقعة تقوم على النقاء الديني و تذكر بمن يروون في غير المنتسبين لدنهم خارجا عن الإنسانية و ينعتونهم بعبارة  ''الجوييم'' أو 'الغوييم''  . و هي مقولات تنافي هذا المقصد الجليل ( أبو يعرب المرزوقي ، الجلي في التفسير )
2-                مقصد حرية المعتقد ، و هو من أمهات المقاصد لأن في انتفائه نسفا لفكرة التكليف و سنده  آية (البقرة 256) ، و وجه المجافاة يكمن في أن غير المسلم قد يتحايل على القاعدة فيعتنق الإسلام اعتناقا غير نابع من إرادة حرة مؤسسة على اقتناع العقل ، وارتياح القلب .
3-                مقصد حفظ الدّين  و هو من الكليات الخمس المتواضع عليها ، ووجه منافاة هذا الموضوع له يكمن في أن المسلم محمول عليه حمل مشعل الدعوة و تقديم رسالة دينه الخالدة إلى الإنسانية على نحو لا يشوبه التشويه ، مما يحمله واجب مواكبة عصر المنظومة الكونية لحقوق الإنسان و رغم تحفظنا على بعض تضميناتها عليه مواكبة هذه ، و البحث في نقاط التقاطع التوفيقية بين ثوابت دينه من جهة و المرجعيات الحقوقية الكونية من جهة أخرى حتى لا ينفر العالم من دينه
4-                مقصد المودة و الرحمة و أساسه (الروم 21) و يتحصص منه أن العبرة في الزواج ليست في ديانة الطرفين بقدر ماهي في حصول المودة و الرحمة فطالما توفرت هذه المعاني اللطيفة فلا ضير في الاقتران ، و كم من زوج هجين متجانس ، و كم من زوج ينتسب طرفاه إلى دين واحد بل ملة واحدة ينزف معاناة و ألما .
المقاربة القانونية للمسألة

(يتبع)

موت إيفان إيليتش لليون تولستوي : مقاربة غير نقدية

إذا ما نحن رُمنا وصمَ كتابات ''ليون تولستوي'' بأحد النعوت ، ملتمسين أدناها إلى التعبير عن كنهها ،  لن نتردد كثيرا في اختيار...